حدود معرفتي بالقهوة تقف عند حدود قهوة أبي -رحمه الله -التي كان يصرُّ على حمص بنها الخولاني يوميا قبل أن تداهمنا موجة الكسل بفعل الحفظ والتخزين مع جيل حريم ” التشيز كيك”.
تلك القهوة التي دخلت في معاهدة سلام ثنائية مع حبة الهيل/الهال التي كانت أمي -حفظها الله- تعاملها بحنان وكأنها رأس يتيم، فتدقها بالملكد/ الهاون برفق، هذا قبل أن تعصف بها طاحونة المولينكس الكهربائية التي عصفت بعراقة القهوة الأصيلة.
أمي- حفظها الله- كانت تأخذني باتجاه ” قهوة القشر” ، ولازالت عبارتها”:
شهبلك فنجان قشر يهاب للاعب حسَّة وحدة” هي طريقي لعالم خاص لا تجيده إلا أنامل الأمهات.
كانت ولازالت قهوة القشر علاجي الوحيد حين ينتابني العاق/ الغثيان.
دوام الحال من المحال، والتغير سنة كونية وبين لحظة وضحاها كتب علي نصيبي من الحداثة لأصبح أسيرا لمشروب جديد، احتل في لحظة ما فضاء القهوة الأصيلة، إنه باختصار الحليب ‘العدني”، يحدث هذا بشكل يثبت أن الإنسان كائن حي يؤثر ويتأثر وأن الفعل الجمعي يؤثر في سوسيولوجية الفرد، وإلا كيف نفسر هذه القفزة الحضارية الخطيرة والتحول المهول عن عراقة القهوة، إلى الحليب العدني رمز الحداثة الجديدة وقائد التحولات المتمدنة. حدث ذلك في أبها في مرحلة البكالوريس ، حيث كان اجتماعنا مع الحليب العدني يعد بمثابة قفزة وحالة تمرد على الأقل في نظرنا، ولازلت أذكر كيف كنا ندخل خلسة لمقر إعداده فيتوقف العامل عن تجهيزه خوفا من كشف سر المهنة.
هكذا ظل حليبي العدني، وكنت أتوهم أن يبقى جسري الوحيد وأن يكفيني شر العصرنة والتمدن وأن تكفيني علاقتي به لإظهار ما يكفي من البرستيج لمقارعة أشكال التحضر، وإعلان الثورة على القديم.
لكن أيضا دوام الحال من المحال، فقد غزتنا هذه القهوة الجديدة بمسمياتها الجديدة وراحت تهدد عرش مشروبي الذي كنت أظنه طريقي الوحيد للتمرد، وإذا نحن في مواجهة مع:
الاسبريسو
وانستانت كوفي
والكباتشينو( لاأعلم عن سلامة وصحة الأسماء).
ظلت قناعتي بالعدني قوية، لكن تلك القصائد الحالمة والتغريدات والمنشورات التي تتغنى بالشرفات والمساءات الجميلة ونسمات الصبح العليلة مع ما رافق حضور تلك الأنواع من خطاب إشهاري جعلت من القهوة الجديدة علامة رامزة على المدنية والتحضر ، وبت أنا وحليبي العدني نمثل حالة الرجعية، ورحت حقيقة أنشد تلك العوالم التي فشل مشروبي أن يمد لي جسر عبور لأحلق وأحلم مع كوب قهوة ساخن يمارس فعل السحر وينقل ذاتي لعالم جديد كما يدعي عشاق تلك القهوة…
ابن خالتي حمد القصيبي كان يقطع 40كلم لشراء كوب من تلك القهوة !!
أمام هذا التحول بدأ عرش مشروبي يتهاوى وبدأت أسأل :
ما الذي يمنعني أن أجرب اقتحام تلك الشرفات؟
وما الذي ينقصني للسير مع العصر لنناجي السحابات في فضاء أولئك الذين أوهموني أنهم مركز الكون، فعزمت النية على المضي، لا لأكون مركزا للكون، بل لأكون مركز اتخاذ القرار لزعزعة ذلك العدني.. الذي مارس علي كل أنواع السلط لأظل أسيرا له..لا لشيء إلا لأعيش لحظة صحو في محيط تاريخي الواقعي…
نعم ذلك المشروب الذي لم يمنحني تلك العوالم الحالمة ولم أعرف منه إلا صحصحة تطرد آثار النوم، أو “سخوفا”، هكذا نسميه في أبها حين نمارس التساهل في إطلاق المسميات بعيدا عن أعين أصحاب الحس المرهف…
اليوم وبعد ثلاث ساعات من القراءة شعرت بالإجهاد وسمعت تلك القهوة تناديني، عندها أعلنت حالة التمرد، وأخذت طريقي إلى ” البارن… كافيه”
كنت مخادعا حين ظهرت بثقة وأنا أجيب عامل ال” بارن كافيه” عن طلبي، وما علم المسكين أني قد سألت ابن خالتي عن اسم المشروب، وبكل ثقة قلت له: واحد (مي كاتو)
فبادرني كيف السكر؟ وبنفس المبدأ المخادع قلت له: مزبوطة، وخير الأمور الوسط يا
‘صديق”
كلها لحظات وإذا بتلك القهوة رمز التمرد والانعتاق بين يدي، أخذتها وشقيت طريقي إلى جيزان مباشرة التي قلت في نفسي بلا شك ستستحيل إلى باريس مع هذه القهوة، أو على الأقل ، إلى ” المحباسة( منطقة زراعية شرق جنوب الشقيري تشتهر بزراعة النباتات العطرية) ما علينا..
بدأت أغازل تلك القهوة وعلى حين غرة ارتشفت رشفة احولت معها عيناي، ولكني رددت على نفسي تلك المقولة:
” من رحم المعاناة تولد اللحظات الجميلة”
ورحت أمني نفسي بتلك الشرفات والصباحات وحالات التجلي والفرادة، فارتشفت أخرى، لكن دون جدوى !!
ورحت أسأل نفسي :
هل كنتُ استثناء من أولئك لتغيب عني لحظة الانسجام والروقان ولأحرم لحظة الانعتاق؟
هل كانوا يبالغون؟
هل يكذب أولئك؟!
لا،
فقط عليك أن تدخل في لحظة الالتحام لتنعتق من ربقة الحليب العدني لتدخل مباشرة في فضاء الشرفات الحالمة !!!
ارتشفتها كلها رغم مرارتها، وفي لحظة يأس أيقنت أن الخدلان ومرارة القهوة فقط هي نصيبي الوحيد من تلك التجربة…
عدت محملا بالخيبات، أستدعي قهوة أبي، وأتذكر قشر أمي، وأرمم علاقتي بحليبي العدني… .
بقلم الأستاذ | أحمد هروبي النعمان.