تزفه الريحُ على “زُبر” الوادي، مرتدياً “حوكه” المُكثل، وشميزه المُقلم المنتهي بزرار مفقود يفضح سُرته البارزة، عاصباً على رأسه بشماغٍ أحمرٍ بدت بعض أطرافه مُهترئة، وقد حشى جيبه الأيسر ببعض “مِخضارة” و”خطور” وبعض “بنات الكاذي” العابقة، ممسكاً في يده اليمنى بـ”مُطـْرقٍ” من الأثل “زامخاً” باليسرى رافعاً رأسه في زهو لم يسبقه إليه أحد.
الوادي تزاحمت “زُهوبه” بالزّروع المتوجة بعذوق “الخضير” وبـ”المُعلفات” والمُحطبات، وببعض الرجال ممن اشتغل عن حضوره بغرَّبة “الحَصَار” و”الرَّين” الشَّاجر، وبعضهم بتحميل ما حزمه من “الأيباد” و “السُّعيد” و”الإفليق” على حاملته.
وبرغم كل الجلبة التي يعتقد أنه يُحدثها كل مرة ينزل فيها وأنها تشغل كل الوادي إلا أن أحداً لم يعره أي اهتمام، بل أن أحداً لم يلتفت إليه سوى حمار لأحد “المعالفة” رمقه بعين واحدة قطع حينها “مَشغه” لبعض “الحَشَر” بناهقٍ لم يُطل فيه كثيراً.
أكمل مسيره حتى اعتلى “مِجراناً” كان قد أعده أحد مُـلاك الزُّهوب، ومد نظره في الأفق “كاشراً” عن ثنيتين صفراوتين، وناب أيسر مفقود، “مُتسدفاً” من ضوء الشمس بيده اليمنى بعد أن نقل “مُطرُقه” لليسرى، وكأنه يبحث عن مفقودٍ غطته الزروع.
وكالعادة لم يجد شيئاً ولم يُعره الوادي بمن فيه أي اهتمام، ليعود بعدها إلى حيث كان.
اعتاد “عبده ” كل مساء على هذه الحال من أعوام مضت، متوهماً احتفاء الوادي بمن فيه من بشر وزرع وطير، معتقداً بشكل جازم أيضا أن “شوقة محمدية” الهائمة عشقاً تجوب الحقول بحثاً عنه كل مساء غير أن لا واد احتفى ولا قلب “شوقة” خفق له حباً.
هذا ما يحكيه للسامرين في دكان “حمود صغير” كل ليلة حينما يجتمعون للعب “السَّاري” و “عظم الطرق”.
وبرغم أنهم لا يعيرون حكاياته أي اهتمام إلا أنه يبدو منتشياً بشكل كبير حينما يروي قصص بطولاته المُملة والمُكررة التي يختلقها لهم.
ما يعرفه الجميع عن “عبده” أنه فقد والده وهو صغير حينما ابتلعه أحد جروف الوادي وهو يهم باجتيازه إلى الضفه المقابلة.
وأمه التي رحلت هي الأخرى زوجةً لأحد الغـرباء العابرين بعد انتهاء عدتها لتتكفل بتربيته جدته الُمعدمة التي لم يمهلها القدر كثيراً، وقد تركت تلك الصدمات بالغ الأثر في نفس المسكين، ليعيش عمره محاولاً إقناع أهالي القرية أنه لا يقل أهمية عن البقية وأنه محل اهتمام الجميع ومحط أنظارهم، غير أن أحداً لم يهتم لأمره سوى البعض ممن يجُود عليه بنظرات الشفقة كلما لاح طيفه.
“عبده”، قصةُ فقدٍ، وحكاية من حكايات المهمشين ممن لا تحتفظُ بهم ذاكرة الزمان أو المكان، صورة لوجعٍ يرفضه الكثير، وروحٌ تتوق غير أنها لا تملك أي قيمة سوى آدميتها التي يرفضها زمن المصالح.
العالم الذي يسكنه أكبر مما قد يتخيله الناس من حوله، يدفعه كل يوم ليجول بجسده الناحل حول حقول الوادي، ليقول للمنشغلين عنه: ( أنا هنا)، أنا مثلكم أتنفس وأحلم، وأفرح وأتألم!، يعرف يقينا أن لا أحد يعيره أي اهتمام لا لشي إلا لأنه لا يمتلك شيئا، خال من كل شيء حتى الذكريات، لا شيء يُعرَّفُ به إلا الوجع والفقد والحاجة لهذا لا يمَل حينما يُعيد سرد بطولاته المزعومة ويكررها كل مساء على مسامع المنشغلين عنه بلعبة الساري.
ثلاثون عاماً عاشها “عبده ” يحمل ذلك الشعور بجانب الكثير من الخيبات والكثير الكثير من الصدمات.
وكعادته كل مساء اعتمر عصابته الحمراء ذات الأطراف المهترئة، مرتدياً شميزه ذو الأزرار المفقودة ولم ينس بالتأكيد “مُطرقه” ونزل يختال وحيداً بنفس يقينه الذي ظل يحمله طوال عمره، وكالعادة لم يكترث أحد له، سوى بعض الحمير الجافلة التي يمرُ بالقرب منها بغتة.
أكمل مشهد الاعتزاز كعادته وحيداً دون أي تصفيق من الحضور حيث انتهى به العرض إلى ذات “المِِجران”، ليُـلملم خيباته وانكساراته ويعود إلي حيث كان.
أحلامه البسيطة لم يتحقق منها شيئاً، وأمنياته نصيبها التأجيل دائماً، لا شيء حاضر لديه إلا الحزن، لا يعرف من بهجة الحياة إلا ذلك الشعور المُغتصب بأن هناك من يهتم لأمره.
القرية بدت هذه المرة أكثر شحوباً، رغم أن المطر بات يُسامر أزقتها و”قُـبلانها”، ويغسل عُششها و”صُبولها”، حتى سالت الطرقات، وأمست “مُخسِعة”، وبات الرجال يمتشقون “مساحهم” وفؤوسهم يتحينون الفرصة للانطلاق صوب الحقول مع أول خيوط الفجر، كي يتقاسمون هبة السماء ويسوقون الماء إلى حقولهم.
وعبده لم يشأ أن يكون أقل شأناً منهم ولم يشأ أن يفوته ذلك الصخب وتلك الفرصة التي قد يصنع خلالها مجداً يخلد به في ذاكرة القرية.
انطلق إلى لا شيء، لا يعرف ما لذي يمكن أن يفعله، لم ينس “مُطرقه” ولا عصابته الحمراء مهترئة الأطراف، تحمله خطى الرغبة في أن يخلق مجداً هذا اليوم.
الوادي بدأ يضج بصخب المُساقين، وهدير السيل يضفي رهبة على المكان، وقد بدأت “الزهوب” تتهاوى تحصيناتها وتتساقط زُبرها، والرجال ما بين الفرح والوجل يتنقلون بين حقولهم.
انتصب “عبده” على أحد “العقوم” مُشرق الوجه بابتسامة تُعري أّسنانه النصف متآكلة مشرعاً صدره للريح بزهو لم يعهد من قبل، هذه المرة شعر أن السيل جاء من أجله هو فقط كي يغسل حزنه، وأن ما يسمعه من صيحات الرجال له بالعودة ماهي إلا من قبيل حسدهم، لأول مرة يقصدونه بصيحاتهم، ولأول مرة يذكرون اسمه ويطلبون منه شيئاً وإن كان ذلك الشيء ضد رغبته.
انتصب وأخذ يجول بنظره فيما حوله من مساحات قد غمرها السيل، والصيحات له بالعودة تختلط مع هدير السيل العارم.
شعر للمرة الأولى أنه محط اهتمامهم، وأن شعوره القديم تأكد هذا اليوم، برغم انه لم يسمع صوت “شوقة” من بين تلك الأصوات المنادية.
الأرض تهتز تحت أقدامه والسيل الهادر يبتلع الزبر واحدا تلو الآخر.
بدأت الأصوات المنادية تغيب وتبتعد وعبده الوحيد الذي مازال يحتفي بانتصاره، ويملأ رئتيه برائحة الطين التي جعلت شريطاً من الذكريات يمر أمامه، يشاهد فيه أمه الراحلة وجدته التي وسدها التراب، وجوعه الذي أطاح بكبريائه، رفاقه المعرضين عنه، تذكر كل الوجع الذي ظل يحمله فوق صدره وكل الأحلام التي ظل يستجدي تحقيقها طوال عمره.
للمرة الأولى في حياته شعر بأنه محط اهتمام العالم بأسره وأن الأرض تدور حوله وأن السماء أرسلت المطر كي يغسل أحزانه، ويحيل يباس أمنياته اخضراراً.
أشرع ذراعيه للريح وغاب تماما عن كل ما حوله، لم يعد يسمع صيحات الرجال ولا هدير السيل ولا تساقط العقوم الواحد تلو الآخر أمام قوة السيل الهائلة.
أغمض عينيه وأرهف سمعه لصوت جدته القادم من السماء والذي يطلبه الرحيل : عبده تعال يا ابني كل شيء هنا مترجي لك.
لأول مرة يشعر بسعادة حقيقية تحمله، تشق صدره، وتُذيقه لذة لم يعهدها، ونشوة رأي بعدها كل ما حوله وضيعاً لا يستحق العودة، حتى “شوقة” التي ظل عمره باحثاً عنها.
في المساء كان “عبده” حديث السامرين في دكان “حمود صغير” ولأول مرة تتحدث عنه القرية لكن دون حضوره.
رحل “عبده” إلى السماء، إلى الأشياء الجميلة التي تنتظره هناك.
لأول مرة يهتم لأمره إمام المسجد وبعض المصلين ممن شيعوه إلى مقبرة القرية التي عاش فيها فاصلة حزن، ونقطة انتهت بها قصة من قصص الوجع، والبؤس، والشتات.