آخر ما كنت أتوقعه أن يجزم الطبيب بأن السبب وراء إصابتي بالتهاب في الجيوب الأنفية هو الغنم !!
حدث هذا قبل أكثر من عشرين عاماً، حينما سافرت إلى العاصمة الرياض لأول مرة، حملت معي حينها هيبة المكان، وبساطة الريفي القادم من حيث الطين، لا أحمل شيئاً معي غير اللهفة للتعرف على ( الشَّـام ) الذي كان يبتلع الباحثين عن الثراء من أبناء قريتي، رغم أن أغلى ما يعودون به يومها هو مسجل يعمل بالبطاريات الجافة عادة ( أبو بس ) .
لم تكن رحلتي للعمل، فقد كنت صغيراً حينها، ولهذا أصر والدي أن يحملني أمانة وضعتني في حرج شديد، وكانت الاختبار الحقيقي لبري به.
رافقني يومها أحد الأصدقاء وهو الآخر لأول مرة يسافر إلى العاصمة، وكان يحمل نفس اللهفة ونفس السيقان المتربة.
نزلنا مطار الملك خالد بالرياض، وكان حينها مازال نظيفاً، والقادمون إليه يدققون النظر في كل شيء تقريباً ابتداء بنافورته الجميلة، وانتهاء بوجوه العابرين الغريبة أمثال صديقي وأنا .
أتذكر يومها أننا كنا آخر من انصرف من عند سير العفش، حيث تأخرنا عمداً حتى يأخذ الجميع أمتعتهم، لم نكن ننتظر حقائبنا، بل ( كيس حب ) أصر أهلنا أن نحمله معنا كهدية لبعض الأقرباء هناك !!
كنا نراقب المسافرين وهم يلتقطون حقائبهم الفاخرة، وعلب هداياهم المغلفة بشكل أنيق، أما نحن فـ (كيس حب)، بالإضافة إلى لفافة بها بعض السمن المُجمد !!.
لم تفلح محاولات إخفاء معالمه بكيس قمامة أسود وضعناه عليه في مطار جازان، حيث تمزق قبل أن يصل سير العفش، وبرغم أن الكيس كان أول الأغراض التي زفها لنا السير المتحرك إلا أننا اتفقنا أن نتجاهله حفاظاً على كبريائنا المزعوم، فنحن في العاصمة ويجب أن نعكس صورة جميلة وحضارية عن أبناء القرى القادمين إليها.
خطفناه بسرعة رغم ثقله، وأودعنها العربة المتحركة ثم انطلقنا ضاحكين وخاجلين.
قضيت يومها مدة كانت بالنسبة لي طويلة جداً وصلت إلى خمسة وعشرين يوماً، بكيت حينها من شدة الحنين إلى إخواني، وأصدقائي، وحتى إلى زبارتنا الشرقية التي كانت تجمعنا كل مساء للعب.
كما أني زرت خلالها مستشفى الملك خالد الجامعي بعد أن دبر لنا أحد الأقرباء موعداً مع طبيب متخصص في أمراض الجيوب الأنفية، وفعلاً تمت الزيارة وأذكر يومها أني كدت أتجمد من البرد وأنا أنتظر حضور الطبيب، حيث لم أعتد على ذلك المستوى من البرودة التي كان مصدرها جهاز التكييف المركزي، وكقروي أقصى ما يشعره بالبرودة هو ( طل عشة، أو ظل عرج )، وإن اشتد عليه الحر، رش التراب بالماء ليبرد الهواء العابر من فوقه.
بعد أن وصل الطبيب كان دوري الثالث دخلت عليه وكنت مبهوراً بما أشاهده، وبينما هو منشغل بأنفي ( الذي كان صغيراً ) كنت أنا أتأمل ما حولي من أجهزة وممرضات، وإضاءة.
وبعد أن أنتهى من الفحص أخذ يسألني عدة أسئلة، كانت جداً طبيعية، حتى استوقفني سؤال شعرت أنه استفزني به .
حيث قال هل لديكم زريبة غنم ، أجبته نعم، وما بين سؤاله والنعم التي ذكرتها مر شريط من الذكريات التي هزت قلبي، وترأى لي ( البهم ) وهو يتقافز من حولي، و( الفُران ) الصغيرة، وأمهاتها.
أفقت وهو يقول .. الالتهاب الذي لديك سببه الغنم!!
برغم أنه مكث وقتاً وهو يفسر لي ذلك علمياً وطبياً إلا أن في قرارة نفسي لم أصدقه، وبرغم مرور تلك السنوات إلا أني لم أصدقه إلى الآن ولن أصدقه.
هو لم يكن يعلم أنا ما بيننا وبينها هو علاقة حب ومصير مشترك، لا يعلم أننا من فرط محبتنا لها نعمل ليل نهار لتوفير زادها، ونهتم بنظافتها بل وحتى ( نحنيها) وكأنها عرائس ستزف إلى مخادعها.
( هبل ) هي الكلمة الوحيدة التي حكمت بها على الطبيب حينما أبلغت والدي بنتائج تلك الزيارة.
صرف لي مجموعة من الأدوية ودون موعداً للزيارة مازلت أحتفظ بكرتها حتى الآن ..وأيضاً ما زلت أعاني من اللاتهاب حتى الآن، وما زلت أيضاً أحمل حب الغنم حتى الآن