كانت تُخاتِلُ أمَّها وتَنتَولُ “جَبْنتها” الفاتِرةَ لتلوكَ ما تبقى مِنْ “حَثْلَتِها” وَهيَ مَازالت في الثَّانِيةِ مِنْ عُمُرِها.
تَارَةً تَنْهرُها أمُّها وأخْرَى تترُكُها لتُمَارِسَ هِوايتَها المُبكِّرة.
نَشَأت ” جَبْرَة” في بَيْتٍ مِنْ بيوتِ “الحِبَاطَةِ” مُتوسِّطِ الحَالِ، يَمتلكُ والِدُها بقرةً وعَشرَ شياهٍ وجَمَلاً ذاعَ صِيتُ قُوَّتِهِ.
تَسْكنُ “جَبْرَة” مَعَ والديْها في عُشَّةٍ مُتوسِّطةٍ بِكَابَتيْنِ صُفَّت بِها ثلاثُ قُعُدٍ وتَخْتٍ خَشبيٍّ وغـَزّاليٍ مُمَغّرٍ بالأحْمرِ، عُلَّقَت بِجانِبِ إحدى كَابَاتِها خَمْسُ سَوافعٍ ومِجْوَلتينِ وزَنْبيلينِ مَشْغُولينِ بالخُيُوطِ الحمْراءِ والسَّوداءِ المُتقاطِعَةِ.
كَما تَمتَلكُ عَائتُها “صَبْلاً” شُدَّتْ أرْكانُهُ إلى جُذُوعِ الدَّومِ وغـُشِي بِالقَصَبِ والمَرْخِ.
وكَكـُلِّ بيوتَاتِ “الدِّمْنَةِ” تمتلكُ العائلةُ “مـِبْوالاً” شُيِّدَ مِنْ أعوادِ السّمْرِ المُغطَّاةِ بالمَرْخِ و “القِصْلِ” والرِّينِ دُونَ سَقفٍ يقعُ خلفَ مَدَارِسِ البَقرِ والأغنامِ.
وتَتَوسَّطُ “قَبَلَ” دَارِهم “إبْرَايةٌ” صُفَّتْ تَحْتها ثَلاثُ جِرارٍ وبُلْبُلةٍ عَتِيقَةٍ.
“جَبْرَة” هي البنتُ الوحِيدةُ لـ “عِيسَى دُجِيم” والذي يُعَدُّ أشْهرَ “مُشقِّبٍ” للجُلْجُلانِ في “دِمْنَتِهِ” بالإضَافةِ لِكونِهِ جَمَّالاً لا تُشَقُّ لهُ عَجْرَةُ أو يُطَابِقُ لَهُ “خِيٌّ”.
ناهيك عَنْ سُمعةِ العائلةِ الطيبةِ بينَ النَّاسِ كأكرمِ بيتٍ في القرْيةٍ ، حيثُ لا تكادُ نارُ “مُركَّبِ” “أمِّ جَبْرَة” تَنْطَفئُ ولا يَبْرُدُ جَوْف “جَبْنَتَها” ولا يُمكنُ لامْرأةٍ في كلِّ “الحِبَاطَة” أنْ تَصْنَعَ قَهْوةً كقهْوةِ “عُمْرانة امشَرْقْيةْ” ما جَعَلَ جَارَتَهُم العَجُوز”ظَامِرِيَّة” تَصِفُها بالدَّواءِ، ورائحتُها عِندَ المَغِيبِ غَدتْ حَديثَ الرُّعاةِ الآيبينَ لِزِرَابٍهم ، وتعْبقُ بها أزقّةُ القريةِ.
تُحْكى عَنْ بَيْتِ “الدَّجَامَةِ” القِصَصُ الكَثِيرةُ والنَّوادرُ التي تَتَناقَلُها الألْسِنةُ عن وَلَعِهمُ بالقهوةِ وعِشقُهمُ المِجنونُ لتناولِها طَوالَ يومِهِمُ و خُرامِهِمُ الشَّهيرُ والذي بَلغَ صِيتُهُ الآفاقَ حتَّى أنَّ أهالي “الدِمْنَةِ” أصْبَحوا يَدْعُونَ عَلى مَنْ يَكْرَهونَ بـ”صَادِع الدَّجَامَة” وهو صُدَاعٌ لا تُوِقِفُ خُيُولُهُ الرَّاكِضِةُ في أورِدَةِ الرَّأسِ إلاَّ “جَبْنَةُ” قهْوةٍ أوْ “جَبْنَتينِ” مُعَتَّقتينِ بالبُنِّ العَيْبانِي.
تَحْكي العَجُوزُ “ظَامِرِيَّة” أنَّ أمَّ جَبْرَة ذاتَ مَرَّةٍ أزْهَقَتْ رُوحَ تَيْسٍ “زَغْتاً” أطَاحَ جَبْنَتَها مِنْ على نَارِ “مُركَّبِها” حَيْثُ لمْ تَحْتمِلْ قَهْرَ الموْقفِ.
وتَتَندَّرُ فتياتُ “الدِّمْنةِ” على “جَبْرَة” التي لا تَقِلُّ إدْمَاناً عنْ أمِّها حَيثُ ما أنْ تفْرغَ “جَبْنَةٌ” حتى “تـُلَقِّمَ أخْرى ، وإذا خَرَجَت للرَّعْيِ أو وَرَدَتِ الوادي تَتَسلَّى فِي طرِيِقها بـِ”حَثـْلَتِها” الَّتي تَسْتمرُّ فِي “مَشْغِها” إلى أنْ تَتَلاشَى !.
نَمَتْ وتَرَعْرَعَتْ “جَبْرَة” واشتدَّ عُودُهَا ونَضَجَ، وأضْحَت عَرُوساً تَتَناقلُ العَجَائزُ وصْفَ جَمَالِها وحُسْنَ ترْبيتِها لأبنائهنَّ، ما جَعَلَها حُلُمَ شَبابِ “الدِّمْنَةِ” .
وفي يومٍ مِنْ أيامِ الخَرِيفِ ساقتِ الدُّروبُ النَّصِيبَ و خَطَرَ على القرْيةِ خَاطِرٌ أتى بِهِ ذِكرُ الفتاةِ التي بلغَ الآفاق حَيثُ وَرَدَ “صَبْلَ” “الُّدجِيم” خَاطِبٌ مِنْ إحدى القُرَى تُرافِقهُ جَاهَةٌ مِنْ عِليِّةِ القومِ تَتَقدّمُهُم بُقَشُ الهَدايا و”حَمُولٌ” قدْ وُقِّرَ بِمَصَارِبِ “الخَطُورِ” والمِشبَّكِ ومِنْ خلفهِ يُجَرُّ كبْشانِ أمْلحَانِ أرْقَمَانِ من “المَخَاصِي” .
“ظَامِرِيَّة” تُحاولُ إقناعَ أمِّ “جَبْرَة” بهذا العَرِيسِ المَيْسُورِ فهوَ مِنْ أهلِ بيتٍ طيبِ الذِّكرِوميسوري الحال كَمَا تقول، وعائلتُهُم مشْهُورَةٌ بالحَزْمِ والكَرَمِ فَهي تَعْرِفُهُم مُنذُ أنْ نَجَّعَت قبلَ عامينِ إلى حُقُولِهُم حينما أجْحَرَت “الحَبائِط”.
تَشَاوَرَ الوالِدانِ في أمْرِ زَوَاجِ “جَبْرَة” واتفقا على قَبولِ الخاطِبِ وتمَّت مَرَاسِمُ الزَّواجِ الذي دُعيَ لَه أهالي القريةِ والكثير مِنْ القُرى المُجاوِرة وطَافتْ “عُتَّامَةُ” العُرْسِ كلَّ البُيوتِ واسْتمرَّ اللعبُ أسبوعاً كاملاً دوَّت خِلالهُ النَّبابيتُ وأشْعَل وَمِيضُها ليالِيهم وفاقَت الذَّبائحُ العشرين رأساً.
وَحَينَ ” النُّقُولِ” حُزِمَ متاعُ “جَبْرَة” الذي فاضَ مِنْ عَلى جَانبي “خِيَّ” الجَملِ ، ولمْ تدعْ أمُّها شيئاً إلَّا شدَّتهُ في رَحْلِها، ولمْ تنْسَ أنْ تُزَوِّد ابنتها الرَّاحِلة بما يُؤنسُ رِحْلتَها ويُهوَّنُ عليها وِحْشَةَ الطَّرِيقِ وجَبَرُوتَ الخُرَامِ.
انطلقتْ قافِلة العَرِيسِ الظَّافِرِ بـ”جَبْرَة” ، وطالت طَريقُهم وهوَ مالمْ تحْتَمِلْهُ العَروسُ المُعتلِية ظَهرَ جَمَلِها الذي تَضْرِبُ أخْفَافَهُ أدِيمَ الأرضِ نَحو دِيارِ الزَّوجِ.
اشتدَّ بِها “الخُرَامُ” وأمْسَكَها الخَجَلُ عنْ طَلبِ إيقافِ السّائرينَ ، أو أنْ تَسْتَسرَّ لزَوجِها بِحاجتِها لصَبَّةٍ أو صَبَّتينِ تُوقفُ “أزْيارَ” رأسِها عنْ الطَنين، خُصُوصاً وأنَّ الرَّكبَ قد توقَّفَ لمرَّتينِ.
لا حِيلة لـ”جَبْرَة” فالحياءُ مِنْ ناحيةٍ وحماسُ المُسافرينَ الذين خَشَيت إيقافَ مَسيِرِهم مِنْ ناحيةٍ والطَّريقُ المُوحِشةُ كُلُّها حَالَت دون أنْ توقِفَ حَمَاسَةَ خُطاهم لتُسْكِتَ عَويلَ حاجَتِها.
“صُادَعُ الدَّجَامَةِ” يُحكِمُ قبْضَتَهُ على أوْرِدَةِ رَأسِها ويَشُلُّ تَفكِيرها ،وحاجتُها لو لِـ”جُغْمٍ” تتضَاعَفُ، ولا حِيلة !!.
غابتْ عنها الحِكمةُ وحَضَرَ حُمْقُها حينَ لَمَحَتْ مُتَّسعاً على “خِيَّ” جملها يُمكنُ أنْ يكونَ مَوقِداً على ظهر حامِلِها المُنطَلِقِ دُونَ تَكاسُلٍ.
اسْتلَّت مِنْ “مِصْرَابٍ” مُدلَّى بجانِبها شَدَّةَ كِبْرِيتٍ و”امْتَخَسَتْ” واحداً مِنها مُضْرِمَةٍ النَّارَ فيما تَيسَّر لها مِنْ أعْوادٍ دُسَّت في “خِيَّ” الجَمَلِ مُؤمِّلةً نَفَسها فِي رَشْفةٍ تُوقِفُ طَنينَ رَأسِها وتُنْهي حَاجتهَا المُتَفاقمِة لِرشْفةٍ أو رَشْفَتينِ.
القَافِلةُ مُنْشغِلةٌ بالطَّريقِ والعَريسُ معَ مُرافقيهِ فِي مُقدِّمةِ السَّائرين و”جَبْرَة” مُنشغِلةٌ بنَارِها التي نَجَحَتْ في إشْعالِ فتيِلِها.
وَهي تُعِدُّ عُدةَ “جَبْنَتِها” مُحتفلةً بنجَاحِ فِكرَتِها أمْسَكَ لِسَانُ الَّلهبِ بِطَرَفٍ مِنْ “وِطَافِ” الخِيِّ وبدأ يلتَهِمُ بَعضاً مِنْ أطْرَافِ ثوبِها في حِينِ غَفلةٍ مِنها.
فَاجأتها النّارُ قاطِعةً عَليها لحْظَةَ النَّشوةِ ، ومُفجِّرةً لحْظةَ فَزَعٍ في صَدِرها جَعلتها تُطلِقُ صِيحةً مُدوِّيةً “جَبَّ” منها الجَملُ وهَاجَ غَيرَ عَابِئٍ بالأحْمالِ المُلتَهِبةِ فوقَ ظهرهِ حتَّى أوقعَ العَروسَ المَفْجُوعة وهي تصْرخُ وتُولْوِلُ :
حِرقنا حِرقنا غِيروا عَليَّه وَلا غِيروا.!!
فَزِعَ الرَّكبُ وانْخَلعَ قَلبُ الزَّوجِ، فعَرُوسُهُ نِصْفَ مُلتَهِبة وقدْ وقَعَتْ من أعلى جَملِها الهائجُ والمُلتَهِبُ هو الآخر .
الرِّجالُ في عِتْمةْ الَّليلِ مِنهُم مِن انشَّغلَ بالعَروسِ التي سَقَت بِنصفِ إفاقةٍ ومنهُم منْ انشَّغلَ بالجَمَلِ الذي التَهَمَت النَّارُ جُزءً غَيرَ يَسيرٍ مِنْ سَنَامِهِ.
الزَّوجُ المفْجوعُ يُحاوِلُ إفَاقَةَ عَروسِهِ التي بَدأت شِبهَ فاقدةٍ لوعْيها غَيرَ أنَّها تُتَمْتِمُ وتَسْألُ عَنْ “جَبْنَتِها” الَّتي أوقَدَت النَّارَ مِنْ أجْلها.
انتَصَبَ الزَّوجُ وهوَ ما بَينَ مُشْفِقٍ على عَرُوسِهِ وناقِمٍ عَليها ومَفْجُوعٍ ممَّا حَدَثَ!! .
يُقلِّبُ طَرْفَهُ بينَ “جَبْرَة” وجَمَلَهُ المُحْتَرَقِ.
الرِّجالُ ضَجَّ بِضَحِكِهمُ المَكانُ والجَملُ النِصْفَ مُحْتـَرِقٍ، باركٌ على ما تَبقَّى مِنْ مَتَاعِ العَرُوسِ، و “جَبْرَة” تتلوّى ما بَينَ خُرَامٍ شَقَّ رأسَها، وفَجِيعَة أحْرَقت جَمَلَ زَوْجِها وأثارتْ سُخْطَهُ، وضَحِكِ المُرافقينَ، وقِصَّةِ “خُرَامٍ” لمْ تَتْرُكَ بَابَ دارٍ إلى الآن إلَّا قَرَعَتْهُ.
مهما كتبت وكتبت من عبارات الثناء لن أوفيك حقك
( أنت قمة في اﻹبداااااع)
ثق تماما” بأنك شخص ناجح ومتميز في توجهك
وكما أﻻحظ انك تعمل بهدوء وبتركيز عال وثقه وهذه من أهم مقومات النجاح..
لك مني اصدق اﻷمنيات بالتوفيق دائما.:)
ابداع إبداع إبداااااااااااااع
الآن عرفت قصة جبرة هذي
من أمتع ما قرأت
شكرا لك يا ابن جبران
ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لله درك أستاذ إبراهيم جبران.
ملكة وإثراء وعدم مبالغة تجعل القاريء مستسلم إلا أن يكمل وإلا فإنه سيفوته الكثير والكثير من المتعة.
إعجابي يفوق تعجبي.
دمتم متألقاً متأنقاً❤️🌹