قريتي الصغيرة، تعتلي تلاً ترابياً يطل جهة الشرق على مدى فسيح، ينتهي بعدد من القرى الصغيرة، كنا ونحن صغاراً نعتقد أن تلك القرى هي نهاية العالم، لم نكن نؤمن أن أحداً يشاركنا هذه الأرض، تقسامنا الفرح، الحزن، الاشتياق،الأحلام.
مع كل صباح نحمل أمنياتنا الصغيرة، ونمضي خلف الفراشات في الحقول التي كانت تمثل لنا المتعة، ولآبائنا وأمهاتنا المتعبين بفرحنا لقمة العيش، والتعب الذي لا ينتهي، والأرق المتجدد كل مساء.
لم تكن تلفت أنتباههم الفراشات، ولا يعني لهم النحل المتنقل بين تيجان الزهور شيئاً،ولا يعيرون العصافير الصغيرة أي اهتمام، بينما كانت لنا كل العالم، ومنتهى المتعة والفرح، وشغلنا الذي لا تقطعه إلا القيلولة التي ينتصف بها نهار متعتنا تحت ظل الأثل، وفيئ العروج .
ذات التل الترابي كنا نعتليه لنطل على المدى الأخضر، المرصع بالباحثين عن الرزق، وتمخر سماءه الحمائم وتختطلط أصوات البشر بأصوات قطعان الماشية الآيبة من الحقول، في سيمفونية لم نعد نسمع مثلها اليوم.
لم تتلوث أسماعنا بالنشاز من الأصوات، ولا النشاز من النوايا، والأمنيات، ولا النشاز من الظنون السيئة، ولا الحقد المغلف بالابتسامات الصفراء الشاحبة.
تشاركنا المكان مع الحيوان، والطير، والحشرات، والأشجار وحتى الطين الذي نعود محملين به إلى أسرة نومنا الخشبية مع مغيب شمس كل يوم.
ومع ولادة فجر اليوم التالي نشعر أن الكون يحتفي بنا، والشمس عجلى كيف تمدنا بطاقة المتعة وآباءنا بطاقة العمل والكد، والعطاء، كنا نشعر أن المساء حفلة كونية تنتصف باللعب البريئ، وتنتهي بالضحك، والدعوات الصالدقة، وبالصلوات.
اليوم .. وقفت على ذات التل الترابي بعد ثلاثين عاماً، ليمر شريط ذكرياتي، أطلقت بصري في ذات المدى، والقمر يعترش السماء بحزن بيـِّن، تساءلت.. كم مرة أطل هذا العابرعلى ذات البقية، وكم من البشر سامروه في ذات المكان، وكم مرة سيطل بعدي !؟
كدت أشاهد كل من عرفتهم في قريتي وأنا صغير أطارد الرعاة القادمين من مراعيهم، محاولاً تفريق قطعان الماعز السائرة في خطر مستقيم لأحدث بعض الفوضى البريئة.
كدت أشاهدهم وهم مابين ( مغرب) ، و(معلف)، و(صاربة)،و(راعية) وآخرين تتعالى ضحكاتهم منتشين بحكاية من حِحايات الحقول.
تذكرتهم بأسمائهم، بتفاصيل وجوههم،وقمصانهم المقلمة، وعصابات رأسهم المكورة، بل كدت أسمع صياحهم الغاضب مني أحياناً.
رحلوا جميعاً وخلفوني مع البقية في ذات المكان وعلى ذات التل الترابي، وذات الأفق الممتد الذي بدى شاحباً هذه المرة.
رحلوا جميعاً ، ومنهم من يحزم أمتعة الرحيل، ومنهم ما زال يمده الأمل.
أرهفت سمعي قليلاً، أردت أن أسمع بعضاً من نوتة المرعى القديم، لم تلتقط مسامعي صوتاً لخوار بقرة ، ولا صياح ديك، ولا ثغاء ماعز، ولا أم تصيح على ابنها كي يعود، ولا بكاء طفل، ولا صوت مذياع متقطع، ولا همس عاشقين سرى بولههم صمت الأزقة، ولا حتى نهيق حمار بات ليله ممنياً النفس ببعض زاد استأثرت به زربة الضأن المجاورة له.
لم أسمع غير، أزيز مركبات، وهدير معدات، الأرض تهتز من تحتنا، وكأنها تبحث عن رفات الراحلين كي تذيقهم النصب الذي نعيش، والبؤس الذي نقتات عليه كل يوم، والرتابة والملل، والسأم.
تأملت مرة أخرى القمر شعرت أنه يسير بتثاقل، لا يعير من حوله أي اهتمام، فقط يريد أن ينهي رحلة مسائه ليغيب بأسرع وقت ممكن، كي يعود في غده لنفس المصير !.
لم يعد هناك من يعير القمر أي اهتمام، حيث يأتي ثم يمضي دون أن يحتفي به، سوى من بعض قصائد شاهت يرددها الموجعون في مخادعهم، وبعض أمسيات صفراء، لم تلهب فيه الحماسة كي يمد الكون بضيائه الساحر.
أدرت محرك سيارتي، ثم عدت مرة أخرى إلى عالمي المتخشب، أحمل قليل من الفرح، وكثير من الكآبة.
جميل جدا ما قرأت
مبدع والله مبدع يابو خليل وأنا بصراحة لا اعلم هل لك كتب قد نشرت ام لا !! ولكن إن لم يكن فعجل بها وانثر اريجك بين الحقول فمثلك سينجح إن شاء الله خاصةً وانك من جازان أرض تحب الأدب وتعرف ابجدياته جيداً ..
تمنيت لو ان لم اعرف هذا الموقع ولا قرأت بعضا من من تلك القصص والروايات وذلك لما ايقضته من ذكريات وشجن قد بدأ يندثر ويتلاشى شيئا فشيئاوذلك لكثرة انشغالي بمتاعب الحياةوهمومهافاتبدلت تلك الوجوه البريئه والنوايا الحسنة والنفوس الطاهرة بصور بشرية مزيفه ونفوس تلهث وتركض بكل مااوتيت من قوة وراء كسب المال بأي طريقة كانت…. الله يرحم زمان وكما قالوا… الاليت الزمن يرجع والا الليالي تدور