“وِشِيلة امطيِّب ” عجوز تعيشُ وحيدةً في عُشةٍ على ظهر قُلـّة في حبائط “العزَّافي” هي وعدد من النعاج دأبت على تربيتها والعناية بها.
عاشت في طُمأنينة و دَعة هي وقطيعها الذي يزداد عددُه يوماً بعد يوم، وريمانُه تنموا يوماً بعد آخر، تـَرِدُ المراعي الخضراء ، وتنزل الوادي بلا خوف لتشرب الماء دون كدر.
و مرت الأيامُ ..
والمراعي تفيضُ بالخير، والنعاجُ تدُرُّ اللبن، وتمنحُ اللحم، و ” وشيلة ” ما بين حالبةٍ ولاحمةٍ.
وكثرت مع ذلك الخير أعمالُ العجوز وخشيت على نعاجها الفرقة والشتات ومداهمة الجعاري والذئاب بانشغالها عنها، فاستقر رأيها على أن تستعين بكلب يسوسها، يوردها الماء ، والمرعى، على أن يكون من غير أرض نعاجها خشية أن ينشغل عنها بنفسه ومصالحه فيكون من المفرطين.
شدت الرِّحال نحو القرى البعيدة تطلب كلباً قوياً أميناً يجيد صد المتسللين، وحماية المراعي من المتطفلين، حتى وفِّقت إلى كلبٍ وُصف أنه من خبراء رعي النعاج وحماية المراعي.
و مرت الأيامُ ..
والكلبُ يثبتُ أنه قوي ذو منعة ، وشدد المراقبة على نعاج العجوز إلى حد بدأت تشعر فيه بالضيق بعد فسحة كانت بها سعيدة.
ومع الأيامِ ازداد عددُ النعاج، وانشغال العجوز وضعفها، وتسلط الكلب حيث بدأ في مخاتلة سيدته المريضة وأكل نعجة كل أسبوع أو أسبوعين دون أن يترك لها أثراً.
ازداد انزعاج النعاج المسكينة فلا مراع أخذت فيها فسحتها، ولا ماء استطابته، ولا هي أمنت على روحها من ذلك المخاتل المستغل ضعف العجوز.
ومرت الأيام ..
واستطاب الكلبُ الحال، والنعيم الذي يتقلبُ فيه ليل نهار، وتذكر أقرانهُ من كلاب قريته ممن تركهم في عوز وفاقة فعقد العزم على أن يأتي بهم يشاركونه النعيم والحراسة.
ومرت الأيامُ ..
حيثُ ذهب الكلبُ إلى قريته يستحثُ أقرانهُ المجيئ، مؤكداً لهم أنهم سيحصلون على الخير الوفير والمنعة، وسيأكلون ويشربون دون كلل أو ملل، فالنعاج وفيرة، وسيدته العجوز طريحة الفراش.
توالت الكلابُ وأخذت كلما أطلت العجوز على نعاجها للاطمئنانٍ عليها وجدتها تحيط بها كحُراس القلاع، مشرئبة رؤسُها نحو الأفق الممتد ترقبُ المتطفلين، وإن عادت إلى مرقدها عاثت في نعاجها فساداً حتى ضاق بها الحال.
ومرت الأيامُ ..
واتفقت الكلابُ على اقتسام القطيع حراسةً وأكلاً وأخذ كل واحد منها نصيبه متكفلاً بالقضاء على أي نعجة أو كبش يحاول الخروج عن طاعته، فكانوا لا يوردونها المراعي إلا بمزاجهم، ولا يسقونها إلا حسب ما يرون، وكلما حاولت نعجة الإفلات سلطوا عليها جراءهم، حتى ضاق بها الحال، وسئمت تسلط الكلاب وضعف العجوز، وقررت أن تلقن الكلاب درساً ، وتنعتق من غل سطوتها وتحكمها في حياتها.
ومرت الأيامُ ..
و اجتمعت النعاجُ في ليلة مطيرة في إحدى الزِّراب المجاورة للعجوز النائمة، حيث خطب في المجتمعين كبشٌ أملحٌ أكحلٌ محمرةٌ سُبلته قائلاً:
نحنُ يا سادة أهل أرض ونحب العجوز المسكينة التي غرَّتها قُطعانُ الكلابِ المتمردة وخاتلتها لتضيق علينا، وتعيث فينا أكلاً ومهانة، وقد اجتمعنا اليوم لنوقف المتسلط عند حده، ونستعيد حُريتنا، ومراعينا، وغُدراننا، وسابق سعادتنا فما أنتم قائلون ؟!
صاح الجميعُ مرحبين بالفكرة، ومُشجعين، ومُصفقن، وتعالت أصواتهم وصياحهم حتى بلغت مسامع الكلاب الغافية تحت صُبول الزِّراب القريبة منهم حيث انتبهت إلى خطر يداهمها ، فأسرعت هي وجراؤها، مباغتة المجتمعين من كل مدخل وهي تنبح بصوت عال مبدية أنيابها وعيونها تتطاير شرراً.
صُعق المجتمعون وتسمروا في أماكنهم ،وكأنما سقطت السَّماء على رؤسهم حيث خرَّ نصف النعاج مغشياً عليه ، والنصف الآخر أرسل بعره دون وعي إلى الأرض من شدة الخوف، فيما أودع الكبش الأملح ذو السبلة الحمراء بطون الكلاب غير مأسوفٍ عليه.
واستمرت الأيامُ في مرورها، والنِّعاجُ في درِّ لبنها .. والمراعي في الاخضرار ، والكلابُ في التكاثرِ والانبساط .
وماتت العجوزُ وهي مطمئنةٌ على نعاجها.
راحت والله سبلة امكبش الخطيب المُفوه