يتناقلُ أهالي القريةً وقُرى الوادي المُجاورة حكاياتٌ لا تُصدقُ عن “عبده جُغْمَة” الذي قضى على نصف “هُوش” الأهالي وأنهى حياة طفلين وعجوز خلال عام واحد فقط ، كما يتناقلون قصة رحيل “مساوية” زوجة “صالح حِنين”.
“ابن جُغْمَة” قحمٌ تجاوز الستين فَقَدَ إحدى ساقيه بعد أن نهشها كلبٌ لجاره البدين “ابن الشرقي”.
شُهرتهُ كـ” شَقبٍ ” بلغت الآفاق، وتناقلها الركبان وطافت بها ألسنة الحكائين وقاطعي المفازات .
أهالي القرية منهم من استعان بالله على نفسه الشيطانية ووكله أمره ، وضعيف الإيمان منهم تطيّر، وذهب مذهب المتشائمين.
فالعجوز “مشنية” علّقت زوجين من الأحذية القديمة على زربةِ نِعاجها ، و”مسدف كُشاني” ربط حَمُولهُ الفتي في “طُراحة” داره وأخذ يبالغ في تدليله! . وآخرون تلهج السنتهم بـ ” كُوع كاعَكْ ربي صَاعكْ ” في كل مرة يُصادفون فيها “ابن جُغْمَة” المنحوس .
توالت ضحايا العجوز المسكون حتى ضاق أهالي القرية ضرعا به وشكوا سوء حالهم لشيخهم الذي لم يترك بابا إلا وطرقه للحد من الخسائر التي تكبدها الأهالي جراء سهام عينه الشيطانية .
تحكي “مِشْنية” بحرقة مأساة بقرتها الرَّقعاء للشيخ حيث رحلت وهي في أيام حملها الأخيرة و “ابن جُغْمة” هو من أودعها وجنينها ثرى الزَّبارة ، حيث بادرها ذات صباح وقد بلغت حدها من الحمل بقوله : أووو يا ذي البقرة اليوم .. تِـشا من يجنيها قديها جَانعة !!
لم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وبقرة “مشنية” وجنينها نهب أنياب السباع أسفل زبارة القرية.
و”عيسى امكناني” فقد أحد أبنائه حينما أطل برأسه من بين أعواد زربهم بينما “ابن جُغْمة” مع والده يتباحثان في أمر حراثة الأرض حيث بادره بقوله : ألِكْ ألِكْ كنه ثِروان شيقبص !! ولم ينتصف ليل “امكناني” إلا وأبواب العزاء مشرعة بابنه الذي أسلم روحه على الفور .
وقصص أخرى سردها الأهالي على مسامع شيخهم الحائر في أمر أقطعهم الشَّقب .
لم يخلُ بيت من بيوتات القرية إلا وللاقطع العجوز فيه ضحية إما نعجة من زرب أو عجل من مدرس أو طفل من حضن والديه حتى أنه أفقد حمار “صادقية” نظره وأكمل حياته كفيفاً لا يعرف مكان زاده.
مرت السنون وتوالى خلالها سقوط ضحايا العجوز الواحد تلو الآخر ما بين مدفونٍ ومُقْعدٍ ومجنون.
حتى اتفق الأهالي على طرده من القرية ، وأبلغوا الشيخ بما أجمعوا عليه من رأي حيث استحسنه هو الآخر.
قضوا بعدها ثلاث ليالٍ يفكرون في خطة يخرجون بها الرجل بشكل لائق، فهو صاحب أرض ويمتلك معاود يزرعها أسفل القرية وقد قضى بينهم عمراً ليس باليسير.
وبينما هم في حيرتهم تلك ووجلهم حملت لهم الدروب في صباحات أحد أيامهم من لم يكن في حسبانهم، أقبلت تتهادى على حمارها القصير الذي بدى ذابلا ومتهالكاً.
وهي تصيح من بعيد بانتشاءة انهكتها الطريق : أوووو صادقية يا صادقية تلقي صاحبتك ترني خاطرة عليك.
هذه هي “شامية امجطلا” ، عجوز لا تقل سوء عن “ابن جُغْمة” كانت من سكان القرية قبل أن يخطفها النصيب قبل عشرات السنين ، ولم تعد منذ ذلك الحين ، غير أن الأهالي مازالوا يذكرون حادثة وفاة “شاطرية” أثناء عودتها من الصَّريب . فقد بادرتها “امجطلا” بسهم من سهام نفسها المسكونة فلم تكمل بقية الطريق لمنزلها إلا محمولة على اكتاف النساء.
ازداد قلقل القرية وتضاعف همها وتفاقمت المشكلات بين يدي شيخها.
أمست الأسئلة الوجلة تجوب أزقة القرية بحثاً عن سبب عودتها وقد خرجت منذ زمن .
الوحيد الذي انتشى لتلك العودة هو عجوز الشؤم “ابن جُغْمة” فـ”شامية” حُلمه القديم الذي فقده على يد زوجها الراحل .
تتالت الأيام بعد عودة “شامية” و تضاعفت معها خسائر القرية وازداد قلق الشيخ وطوقت الأزمة عنقه، فقد أصبح في اختبار حقيقي صعب كشيخ يتوجب عليه الوقوف بحزم أمام ما يُعكر حياة جماعته.
انقلبت حال “ابن جُغْمة” بعد عودة “شامية” مع أنه لم يلتقيها بعد لكنه أخذ يستعد لتلك اللحظة
و”شامية” لم يعد في قلبها متسعٌ لحبٍ آخر فقد شاخت عاطفتها وتمكن من قلبها القنوط، هذا ما قالته لصديقتها القديمة “صادقية”.
في إحدى المساءات الرَّطبة استرسلت “صادقية” في بوحها الحزين عن حال قريتهم و”شامية” مرهفة مسمعها لحديث المحزونة .
كانت تكتفي بالحوقلة و الاستعاذة من الشيطان الرجيم مع نهاية كل قصة تحكيها “صادقية” ، لم تزد على ذلك شيئاً .
جرعت فنجان قهوتها الفاتر ثم غابت في الظلام دون أن تواسيها بكلمة.
“ابن جُغْمة” انشغل بالقادم الجديد ، وأخذ يتحين الفُرص للقائها وهو في كامل تأنقه على غير عادته إذ يتوقع أن يُصادف “شامية” في أية لحظة دون سابق إنذار ، وأخذ يحرص كل صباح ومساء على الاتزار بحوكٍ جديدٍ ابتاعه قبل أيام وتلبيد ما تبقى من شعره الشَّاحب المبيض ببعض الطيب وشميزه المقلم الذي لا يرتديه إلا في مناسبات القرية الهامة.
“شامية” لم تكن تُعير “ابن جُغْمة” أي اهتمام فالأيام التي ستقضيها في القرية شارفت على الانتهاء ولديها من الأعمال ما يشغلها عن ذلك المقحم “السَّامِج” على حد وصفها.
مع دنو الشمس من مغربها دلفت إلي دار الشيخ كشبح لا تَبين معالمه ، تعرض عليه شراء ما تبقى لها من قراريط في الوادي حيث رحب بالفكرة ونقدها ما اقترحته من ثمن دون أن يخوض في أي تفاصيل بخصوص الصفقة على أن يُكملا كتابة حُجتها لاحقاً.
أكدت “شامية” قبل مغادرتها مجلس الشيخ نية الرّحيل إلى ديار زوجها المتوفي لتقف على أمر ما ورثته من أراض وبعض “هوش”.
أبدى الشيخ أسفه المصطنع على رحيلها وأضمر فرحاً بالكاد استطاع أن يُخفيه وتمتم مودعاً وهو يقول في نفسه: الحمد لله أجت منها وما باقي إلا عجوز النحس “ابن جُغْمة”.
القرية تُطل على الحقول الموشاة بالأخضر وصخبُ الرعاةِ الآيبون بأغنامهم وأبقارهم سمفونية تَـطرب لها “شامية” وتنتشي وهذا المساء وقفت كفارسٍ يُلقي نظرته الأخيرة على ميدان معركته الرابحة ، تُقلب ناظريها على الحقول الممتدة وترهف السَّمع لأصوات العصافير المتزاحمة على رؤوس الأثل وبين أحراش الجروف حيث اختلط صخبُها مع أصوات “البَهَمْ” المنتظر أمهاته العائدة من مراعيها .
أطلقت تنهيدة امتدت بشيء من الحزن ثم اغرورقت عينيها الغائرتين بالدمع .
لم يقطع ذلك الاتصال الروحي مع ذكريات المراعي ومراتع الصبا إلا صوت “ابن جُغْمة” الذي أقبل متنحنحاً على حماره ذو الرحل الخشبي.
أطل برأس مُمهد وإزار ملون منتهي بكُـثـلٍ غير متشابكة تشي بحداثة شرائه وقميص مُقلم تعبق منه رائحة الريحان والخطور و”وضينة” تبدي قدماه المصبوغة بالحناء ، راسما ابتسامة كشفت أسنانه المتآكلة.
صورة لم تعتده “شامية” عليها فما عرفته إلا دميماً بشميز مهترئ وإزار بالكاد يستر مؤخرته .
ما أن انتبهت لمَقْدمه حتى مرت أمام عينيها مشاهد النساء اللاتي اشتكين لها نفسه المسكونة بالشياطين.
وتذكرت حديث “صادقية” بكل تفاصيله ، لم ترى في “ابن جُغْمة” في تلك الحظة العاشق المتودد، ووجدتها فرصة لتُكفر عن كل ما اتلفته لأهالي القرية من أنفس وممتلكات في سابق عهدها ، رمقت “ابن جُغْمة” بعينين جاحظتين وهي تولول ثم أردفت قائلة : أووو ماليوم كنك قعادة مِرمِّلة مَغَّروها للعيد!! .. عسى ما خلاف ؟!
لم تُنه “شامية” عبارتها تلك حتى جّفل حِمارُ “ابن جُغْمة” كمن رأى شيطاناً ولم يُعر المُمتطي لظهره أي اهتمام وأخذ يرفس وينهق كمفجوع أيقن هلاك نفسه، والرجل يحاول التشبث بكل قوته لكن دون جدوى ليُلقي به بعيدا عن ظهره ويغيب بين دواب العائدين من الوادي وليسقط “ابن جُغْمة” دون حراك.
أخذت شامية تولول وتستنجد بالعابرين من الرعاة و”المَعالِفَة” ليسعفوا المتكور دون حراك.
تجمهر الصِّبية و الرِّجال مستطلعين أمره ، ثم حملته الأكتاف إلى جامع القرية لينظر الشيخ في أمره.
لم تغرب الشمس إلا وقصة سقوط “ابن جُغْمة” من على ظهر حماره على كل لسان وأن وفاته باتت مؤكدة لأن سقوطه كان على مقتل .
قُبيل العشاء نعى إمام الجامع “ابن جُغْمة” ورغم محاولاته إخفاء سعادته بذلك الرحيل إلا إن طلبه سُرعة إتمام مراسم الجنازة فضحت ذلك الشعور.
القرية انقسمت ما بين محتفلين مسرورين برحيله وبين محزونين لتلك النهاية المؤلمة.
مع فجر اليوم التالي جمعت “شامية” ما تبقى لها من أمتعة وأحكمت شدها على ظهر حمارها وقبل أن ترحل احتضنت “صادقية” بحرارة و أجهشت بالبكاء واستحلفتها أن تستسمح لها من أهالي القرية وأن يغفروا كل ذنوبها في حقهم ، مؤملة أن تكون قد كفرتها برحيل “ابن جُغْمة”.
رحلت “شامية” ورحل “ابن جُغْمة” ولم يَعُـد حماره الفار ، وعاشت القرية في سعادة وهدوء لم تعرفه منذ سنين مضت .
ممتعه جداً واصل ابداعاتك اخي ابراهيم