موقف حدث لي قبل سنوات في بيت الله الحرام بمكة المكرمة.
أنهيت صلاة العصر وجلست أتأمل الطائفين حول الكعبة، المنظر كان مهيباً، والطمأنينة تملأ المكان.
وأنا في تلك الحالة الإيمانية المتأججة جداً إذ برجلين وامرأة كبار في السن يبحلقون فيّ بشكل غريب، حاولت تجاهل نظراتهم المتفحصة، لكني لم أوفق، و زدت استغراباً وخوفاً حيث بدأوا كالمتشاورين في أمري وكأن لسان حالهم يقول : ( هو ؟! لا ! هو ؟؟ لا ! ).
زلغني زالغٌ،وانخفضت نسبة الطمأنينة لدي، وبدأت أفكر في الأمر بجدية، اقتربوا مني ومد أحدهم يده للسلام فمددت يدي، وسلمت عليه مع نصف ابتسامة وبدأ يتحدث بلغة لم أفهمها!.
حاول، وحاولت أنا أن أفهمه وكنت أحاول التحدث معه بإنجلبزيتي المهلهلة التي طارت نصف حروفها من راسي في تلك اللحظة.
الرجل في هيئته من إحدى دول الاتحاد السوفيتي سابقاً ( قحم ) كان يتودد في حديثه الذي لم أفهم منه شيئاً.
وأنا منصت له وفي داخلي أقول : ( الله يخارجنا اليوم )!!.
مكثنا تقريباً نصف ساعة ونحن مرة بلغة الإشارة ومرة بلغة العيون ومرة نكتفي بالصمت وتارة أفغر في وجهه وتارة يبادلني هو نفس الفغرة.
كان بجانبنا شاب من ملامحه أنه من بني جلدتهم يتابع المشهد وهو مبتسم ثم اقترب مني وسلم وقال بلسان عربي مبين: الرجل يقول أنك قبل خمس سنوات التقيته هنا وأهديته مجموعة مصاحف وبعض الهدايا من الحرم، وعاد بها إلى وطنه وأسلم من جماعته عدد من بينهم زوجته التي حضرت الآن للحج وقد مكث أياماً يبحث عنك للسلام عليك وشكرك، ولتقديم هدية متواضعة لك رداً للجميل.
قلبت نظري بين المتحلقين حولي في دهشة وقلت ( لا وربي .. لست صاحبك ولم يسبق لي أن أهديت أحداً أي شيئ في الحرم، لكن نهاااااااية لمهو مشبه )!!
مكثنا عشر دقائق تقريباً هو يقول ( أنه متأكد أني صاحبه وأنا أقول ما معاك خبر ) مع تبادل الابتسامات وصاحبنا يترجم فيما بيننا الكلام.
اقتنع بعد جهد جهيد أني لست صاحبه، وشكرته على موقفه النبيل ووفائه لذلك الشبيه المختفي.
وقلت في نفسي سبحان الله كيف يسر الله لذلك الرجل هذا الأجر العظيم أن هدى بهديته أناس في أقاصي الأرض، وكيف عجل الله له البشرى أن كان صاحب هديته وفياً أميناً شاكراً لنعمة هي من أعظم النعم أن هداه الله للإسلام وهدى به أقواماً آخرين.
متأملاً في موقف هذا العجوز وحرصه الشديد والعجيب على لقاء صاحبه وسط تلك الجموع الغفيرة، وبعد خمس سنوات،وكيف أن بإمكاننا أن نقدم ديننا للآخرين بأبسط الطرق وأيسرها وأبلغها في نفوس الناس.