«بائعة الدجر» .. عنوان لمجموعة «تواسي» – بمعنى حكايات – اشتغلت على اللهجة المحلية وتسبر الموروث في منطقة جازان، متخذة من مفردات القاموس المحلي مجالاً خصباً لحركة النصوص البالغة عــددها 20 نصـاً تـزاوج بين العامي والفصيح، كما اعتمد في كتابتها الإعلامي والشاعر إبراهيم جبران الذي قال عنها لـ«الحياة»: «هي محاولة للتشبث بالموروث والحكايات الشعبية التي يزخر بها المكان في منطقة جازان».
ويضيف الكاتب جبران: «تقع المجموعة في 71 صفحة من القطع المتوسط، واخترت العناوين لكل قصة لتتلاءم مع مضمون الغلاف، وتتواءم مع الفكرة التي تضيئها التوسية مفرد الحكاية، وفيها استنطق ذاكرة الكبار، وبعث تفاصيل حياتهم القديمة، وأقاصيصهم وأمثالهم». يذكر أن المجموعة صدرت في نسخة إلكترونية بهدف توسيع انتشارها عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، واختار منها ملحق «آفاق» هذا النص:
بن مِجْمِلة
دائماً ما يُحْرِجُ «فرحان بِنْ مِجْمِلة» زوجته «مِحْسنة» بتصرفاته الحمقاء والتي كان آخرها ما حدث عند بئر القرية حينما وردت «مِحْسنة» لجلب الماء، حيث بادر الحِمارَ بعضَّة قسمت أذنَهُ اليُسرى إلى نصفين، لا لشيء إلا لأن ذيله لسعَ وِرك «مِحْسنة» بينما هي تُحكم وثاق جِرارها على ظهره. لا شيء يُعجب «مِحْسنة» في زوجها إلا غيرته التي تعترف بمبالغته فيها ما يضعها في حرج دائم أمام صديقاتها وأهل القرية. مرت عشر سنوات منذ أن تزوجا حيث أشعلت النبابيتُ مساء الجبل وتوارد يومها ضيوف فرحان من السهل والجبل يباركون الفرح. وتهامس ليلتها بعضُ صديقاتِ «مِحْسنة» عن ذلك العريس وهن يُقهْقِهن حيث اشتهر «فرحان» بين أهالي القرية بِخِفَّة عقلة التي يقابلها قلبه الكبير المحب كما تدعي «مِحْسنة» في محاولة منها لتحسين صورته. عشر سنوات و«فرحان بن مِجْمِلة» «مِحْسنة» ينتظران أن تثمر علاقتهما عن طفل يتباهيان به ويُعدانه لعجزهما الذي تحمله السنوات القادمة.
دائماً ما كانت «مِحْسنة» تمازح زوجها وتقول: «إذا جانا ولد أتمنى يكون بطيبة قلبك وبَحَلى أمّه وعقل أخواله»، ثم تُردف أمنيتها بضحكة لا يقطعها إلا حَنَقُ فرحان وهو يرد:
يعني عقلي ماله!؟ ماله هااا ماله هبل تِرنِّي!؟
وفي مساء إحدى الليالي انشق صمتُ القرية عن غطروفٍ أتِبع بطلقاتِ نبوت اهتزت له أسرة النائمين، ففرحان بن مِجْمِلة رُزق بمولوده الذي انتظره عشر سنين، الفرح ملأ منزله وفاض على منازل القرية المجاورة، واشعلت مساءتُها لأسبوع كامل بدوي النبابيت وقرع الطبول ابتهاجاً، غَفر خلالها أهلُ القرية كل حماقات «فرحان» التي كان يرتكبها فهو في سكرة الفرح كما كانوا يقولون. انقلبت حياة الزوجين رأساً على عقب وتبدل انتظارهما القانط فرحاً وهما يراقبان القادم الصغير يمرح في حضن أمه، ويكبر كفسيلة.
فرحان منهمك في حقله لا يصرِفُه عنه إلا مغيبُ الشَّمس، وفي يوم عاد يحمل تعبه وشوقاً عارماً لرؤية وليده. وهو «يُباسِطُ» «مِحْسنة» التي تكور الصغير على صدرها المُترع حليباً ودفءً لمح ثُلةً من الذبابِ تحوم على صدرِ زوجتهِ المكشوف، تحُط تارة وتطير تارة أخرى و«مِحْسنة» تَهُشّهُ تارة وتتركه تارة أخرى يستبيح المساحات المكشوفة من صدرها.
انتفض فرحان من مجلسه «مُبحِجراً» مُحمرَّ العينين وانتصب غاضباً وهو يتمتم:
والله لأوريك يا اللي ما تستحي! ما لقيت إلا صدر «مِحْسنة» تِلْوي عليه!؟
قِرْ لي لو أنت رُجُل!.
ثم غاب للحظة وعاد ثائر الدَّم مُمْتشقاً نبوته وانتصب كفارس نال من خصْمه مقتلاً وصوَّب نحو الذباب المُخيِّم على صدر غاليته المنشغلة بإرضاع صغيرها مطلقاً رصاصتين خطفت روح «مِحْسنة» ووليدها، وفرَّ الذبابُ دون أن يمسه أذى. انتصب بعدها شامخاً كمنتصر رافعاً رأسه وهو يكرر بِحمق غير مسبوق وعيدَهُ للذباب الفار: هذي المرة سلمتْ والمرة الثانية والله لأثوِّر كل مَعَابِري فيك.
حُمقُ فرحان خلفه وحيداً وغدى قصة على ألسنة أهالي القرية والقرى المجاورة يتندر بها السّمار في مساءاتهم ويتناقلها الحكاوتيّة ويقطع بها المسافرون المفازات».