استوقفتني سيارة مُحملة بالحبحب، أو البطيخ، أو (البرطيخ) كما يُسميه خالي العجوز، كانت تقف على حافة الطريق في مدخل قريتنا.
اشتبكت مع صاحبها في معركة من المبايعة، والمفاصلة كان يتخللها بعض الممازحة وقليل من (المداكمة) التجارية، كنت أستعرض خلالها تاريخي التجاري وأني أجيد التسويق والبيع والشراء، كيف لا وأنا ابن قرية ريفية كانت دُخول أسرها من بيع القصب والجُلجُلان وبالطبع الضأن، في محاولة مني لإقناعه أنه أمام زبون ليس بالهيّن.
المهم أن أسعاره كانت مرتفعة ورفض مدعوماً بثقة كبيرة في بضاعته أن يخفض السعر فقد كان أقل سعر منحنيه هو ٢٥ ريالاً ( للدُّبع ) الواحد .
لم يكن السعر مناسباً لحجم المعروض، ولخبرتي الطويلة في مثل هذه الأشياء رفضت الاستجابة لكل محاولاته وإغراءاته وحتى محاولاته استثارة غروري حينما تغزل في ابتسامتي التي أجزُم أنها لا تتفق وما قاله، وأن ما قاله مجرد محاولة يائسة لاختراق حاجز الرفض الذي فرضته.
أخذ نفساً عميقاً متأهباً لجولة جديدة من المبايعة، ثم شقّت وجهه ابتسامة أوحت لي بمكر، منتولاً ( دُبعاً ) متوسط الحجم وقال: أنا أعطيك هذا بعشرة ريالات، دون أن (أسْكُن) أغواره بالسكين وأنت وحظك، قال ذلك وهو يربت عليه بيدٍ بدت للمتحلِّـقين حولنا حانية، تأكد لي لاحقاً أنها كانت تربيتةً ماكرة.
قال لي: تستغرب لم هذه بعشرة مع أنها تبدو مُترعة باحمرار ممزوج بحلاوة ؟!!
قلت له وهل هو تحدٍّ؟؟
قال بمكرٍ بريئ : هو كذلك، فإن كانت صالحة خذها حلالاً بالعشرة، وإن جاءت دون ذلك عليك أن تعترف بزيف تاريخك وضحالة معرفتك، محاولاً استثارتي ومتوقعاً عدولي عن ذلك ( الدُّبع ) الذي بدى لي مغرياً وجذاباً، وعن التحدي الذي أعلنه.
استحضرت كل خبراتي، وتجاربي، وتاريخي الزراعي والنباتي، ومر أمام عيني شريطُ ذكريات الحقول وأسواق الحَب والقصب، ومِجلاب الكباشة، وكيْن العروج، ودُكاننا الصغير الذي كنا نبيع فيه (الأنٓسٓ) والخوخ والطماطم والباذنجان في شهر رمضان، ومع أني لم أبع خلال كل تلك السنوات الحبحب إلا أني كنت واثقاً من خبراتي، معتقداً أنه لن يختلف كثيراً عن ( الدُبا ) التي كنت أبيعها.
نقدته العشرة ريالات وحملت الدُّبع بزهوٍ، ونشوة المنتصر، وما أن وصلت البيت ودون أن أبدل ملابسي، حتى فاجأته بطعنة سكين كنت خلالها متأكداً من أن الحُمرة ستطفح من بين فلقتيه، وأن طعم السكر سيجتاح تلافيف ( كَـلحتي ) كطوفان لذيذ.
وكانت الخيبة!!!
لا شيئ إلا جوف دُبعٍ ( مِخْرِط ) ولونٍ باهت وطعم بلا طعم، وتاريخ متوج بالخيبة.
شعرت بمرارة الهزيمة، خُيل لي لحظتها وكأن ذلك الصعيدي الظريف قد بزغ لي من بين فلقتي ( الدُّبع ) المشقوق وهو يضحك قائلاً : مش أولتلك يا باشا متخدوش، عِمِلت لي فيها فهيم، وبتاع كُلّه، وأهو دا أُدّٓامك عمَّال زي الفِشّٓة، يا بو تاريخ فَشوش … هع هع هع هع هع.