ظل اثني عشر عاماً مُشْرِعاً كفيّه الضامرتين نحو السّماء ، لم يرتو خلالها إلا صدرهُ العاري من دموع تضرُّعاته .
يرقبُ الشرق علَّ ( قَـليصاً ) يُبدِّل زُرقة السّماء بياضا يُضيئُ سواد قُـنوطِه ، أو رحمةً تنزل في قلبِ القائمين على أمر المارد الاسمنتي الذي حبس الماء عن عروق حُقولهم المُجدِبة بوادي بيش!!.

الأرضُ لهُ ككبده العتيق، لا يستقيمُ له نهارٌ إلا إذا خَط بقدميه العاريتين أديمها الشَّاحب.

منذ سنوات وهو ينتظرُ الرياح أن تسوقَ له قطراً.
المارد الاسمنتي يحبسُ عن معشوقته ما يعيد نظارتها والبهجة إلى قلبه.

كلُ صباحٍ ومع أول رفَّةٍ لجناح طير يَمخُرُ ( عَقْمهُ ) الذي علَّق به أحلامَه وأمنياتَه بعد أن أرسلها إلى السَّماء، و لا شيئ سوي الجَدب!!

ذات نهارٍ صَعقَ ( بوالشٍ ) وعينياهُ مشرئبتانِ نحو الأفق الشّرقي؛ فكتائبٌ بِيضٌ تُعاركُ أخرى بدت مُسودّة، في تناحُرِها حياةٌ لذلك ( القَحْم ) المُنتظر منذ زمن .

أخيراً استجابت السّماءُ لتوسلاته وبدأت تغسلُ الأرض بقطْرها وهو يتمايل ويصفق بكفيه فرحاً منشداً :
يا مطر تعاله
سيّل امجفالة
يا مطر تعاله
سيّل امْجُفالة
يُرددها بانتشاءة غير مسبوقة اتبعها برحلة روحية اخترقت الحُجب إلى السّماء حيث المُنعم لاهجاً بشكرهِ لله تعالى وقطرُ عينيه مختلطٌ بقطر السَّماء المُنهمر.

في الصّباح حمل ( مَسْحته) وباغت العصافير في اكنانها وانتصب على عقمه؛ فالسيلُ أروى حقولَ جارهِ “عبده شتيف” و “حسن ابر علي” ، وهو المنتظر الأخير، تعتمل في داخله اللهفة وشوقٌ عارمٌ يعصفُ بمشاعره جعله طوال فترة انتظاره يتراقص على زبيره كالمجنون وهو ينشد :
سيّل امجفالة
سيّل امجفالة
ويلوح ( بجُنبيتِه ) التي اسْتلَّها من ( حِزْبه ) راقصاً.
وماهي إلا لحظات حتى حملت له الرياح رائحة المقادم العزيز المختلط بالطين، وكأنه اشتم رائحة الجنة ، عبّ منه وملأ رئتيه شهيقاً يتبعه آخر وهو في نشوة لم تَسكُن صدره منذ اثنتي عشر عاماً من القحط .

هرول كمن يستقبل مفقوداً عاد بعد طول انتظار ووجل ، وهم باحتظانه.
وهو يتغلغلُ في مَسارِب أرضهِ المُجدبة شعر به يتغلغلُ في عروقِ جسده ، باثاً فيها الحياة من جديد ، وهو يهلل ويكبر تارة وينشد تارة أخرى ويولش بنشوة تارة ثالثة.

مشاهد متتالية مختلطة مابين فرح وجنون لم ينهيها إلا هديرٌ قادمٌ من خلف عقمه الترابي والذي لم يجهد في معرفة صاحبه.. أسرع معتلياً العقمَ الذي اصطفت خلفه معدتين بدا لونها الأصفر مثيراً لاشمئزازه ،يقف خلفها عددٌ من الغرباء بدوا له كقابضي الأرواح ، أدرك حينها أن أمراً لا يسر لا محالة واقع.

انتصب العجوز على عَقْمه وقد جَفَلت منه الفرحةُ وحلّ في تلافيف صدره الغيض والغضب وبدأ الدمُ يثور في عروقه الضامرة ، وبادرهم قائلاً : خير إن شاء الله !!
وإلا الرَّازق في السّماء والحاسد في الأرض!!
أقول صابوا صابا الله عليكم .!

بدأ بعض رجالات القرية وصبيانها بالتوافد على ساحة المواجهة ، يراقبون الحدث بطرفيه الغير متكافئين ، فمعدات مدججة بالسلطة والنفوذ، في مواجهة جسدٍ تسعيني نحيل لم يسكنه إلا حلم لم يتحقق منذ اثنتي عشر عاماً، حلمٌ سيقدمُ روحه قُرباناً من أجل تحقيقه.

لم تَهُزَّ عزيمته جحافل العساكر ولا أزيز معداتهم ولا توعد قائدهم بالعقاب .

وما تشون ؟؟
بادرهم بسؤاله التهكمي غاضباً !
اثنعشر سنة وبلادي جَحْر ، حَرمْتُنا خير ربي وحَدِّيتُنه بسدكم الله يسد حَلوقكم ، لا رحمتم ولا خليتم رحمة ربي تنزل .!
وذلحين اللي في راس أمه رَجَالة يتقرّب يِفْجِر امعقم !

بدأت صيحاتُ الحاضرينَ تتعالى والطرفان كلٌ يتحفّز لمباغتةِ الآخر ، وقائدي المعدات الهادرة يقتربون تارة ويبتعدون تارة أخرى وقائدهم الذي فقد حكمتهُ يتهدد ويتوعد ويستثير غضب العجوز الثائر.

صاح مرة أخرى في وجه المتحفزين لقطع وريده : تقرّب إذا أنت صادق عيال عبد العزيز قالولك احرم الناس من الخير .. تقرَّب .
قالها وهو يستلُ ( جُنبيته ) الحادّة من (حِزْبه) ويُشهرها متوعدا بجزِّ رأس من يحاول الاقتراب من عقمه .

ثم عاد يحكي قصة حُزنه القديم وحزن كل رفاقه الذين أجدبت حقولهم منذ أن اعترضوا مجرى سيلهم بماردهم الأسمنتي.
اغرورغت عيناه بالدمع وهو يشتكي العذابات التي انحلت جسده المتآكل ، والجدب الذي أحال كل أراضي قريته والقرى المجاورة شحوباً محزناً وعشرات البيوت التي تبيت تحكي حرمانها خير السّماء.

لم تحرك تلك الصور المحزنة في ضمير قائد العسكر شيئاً بل زادت من قسوة قلبه ، وفي الطرف الآخر وقف العجوز الغاضب أمام خياره الوحيد وهو أن يجتز رأس من يحاول المساس بأرضه العرض.

احتدمت المواجهة ولم تفلح محاولات الحاضرين في رد العجوز الذي امتطى صهوة غضبه وانطلق نحو هدفهِ حيث بادرهُ بضربةٍ من جنبيته التي لمعت في السّماء قبل أن يهوي على هامة الخصم.
حينها صمت المكانُ بمن فيه ، واحمر رداء قائد العسكر من دمه الذي أراقته حدة الجنبية وغضب العجوز.

المفاجأة شلّت الحاضرين لبرهة، بعدها سارع البعض للحيلولة دون المزيد من الخسائر.
أحكمت بعدها يدُ السُّلطة قبضتها على عنق العجوز الذي بدت انتشاءتهُ على تجاعيد وجهه واقتيدَ وهو ينظرُ للمتحملقين الواجمين خلفه مبتسماً وهو يقول : أما ذَلْحين يِـفْجِرون عيني ما دام زَهْبي قِدْ رِوِي وغُشِّي برد !.

من jubran4u

لا توجد أراء حول “عَرار بُرْعُمة”
  1. جميله جدا
    عشت مع القصه وتخيلت شخصية ذلك العجوز الشجاع
    المقطع اﻷخير فيه نوع من العبارات المسليه المضحكه.
    الله يعطيك العافيه ،،،

التعليقات مغلقة.