لم يمض على وصولهِ إلى زربته الجديدة سوى أسبوع لكنه أسرَ لُبها وهامت به عشقاً فهو خلاف بقية الفُران والكباشة التي تعيش في زربتها الواقعة يماني عُشة مالكها العجوز.
عُيُونُه الكحْلاء وقوائمُه النصف مصبوغة بالأسود وسُبلته المتدلية ذات الشَّحم الوافر وافقت قلباً خالياً فأوقعته صريعاً.
لم يُعرها أي اهتمام في بادئ الأمر إذ لم تكن بذلك الجمال الذي يُمكن أن يُلفت انتباه كبشٍ مثله قادم من حقول بيش المترعة بالخضار والنِّعاج الرُّقم الحِسان.
كان ينشغلُ طوال يومهِ بأكل ما يُطْرَحُ له من الحَبِّ والشعير وكِسرِ الخبز ، وهي تراقبه بصمت وتطلق تنهداتها الحارة .
في الأسبوع الثاني لاحظ اهتمامها الذي لفت انتباه بقية فُرّان ونِعاج الزَّربة حتى أنه أصبح يشعرُ ببعض الحرج من تعليقات رفاقه الجدد.
لم تُمهلهُ كثيراً ولم تحتمل حالة الصمت التي تسحقها حيث صارحته ذات مرعى عن ولهها وأنه أسر فؤادها الذي لم يعرف الراحة مذ دلف باب مَدْرسِهم ، واستطردت في وصف مشاعرها تجاهه وكيف أنه شغل تفكيرها، وشغفها حُباً.
وهي تحكي ما يختلج في لواعج روحها تًُجاه الأكحل الصَّامت تأمل عينيها المسكونة بالهيام لمح فيهما أنثى لم يكتشفها إلاّ اللحظة ، وتذكر أنها القلب الوحيد الذي ظل يُخفف غُربته عن حقول بيش ورفاقه السَّابقين.
لم يُمهِلهم العجوز كثيراً لاستكمال حوارهم اللاهب إذ التفَّ حولهما بِحمُولهِ الأدهم وساقهما باتجاه البيت .
اللقاء الأخير تحت ظل الأثلة العتيقة أوقد في قلبه فتيل الحب وبدأ يهتم بلقاء نعجته المغرمة، ويتحين لحظات خلوتها تحت الأثلة في كل مرة يخرجون فيها للمرعى ، حتى أصبحت الشجرة شاهداًعلى ولههما والمكان الذي يجدان فيه ما يغمر قلبيهما بالبهجة وما يطفئ لهيب الاشتياق .
ومرت الأيام تلو الأخرى حتى استشرى الحب في قلبي الحبيبين وأصبحت قصّة غرامهما على ألسنة الفُرَّان ونعاج الحي بأكمله وأخذت كباشة الزَّرائب المجاورة تتناقل قصة حب الأكحل البيشي ونعجة العجوز.
ذات مساء والبدرُ مكتملٌ في عليائهِ وحوله النجومُ رَصَّعت الأفقَ وهما يتأملان احتفاء السَّماء بهما كعاشقين ، تنهدت ثم سألته : تحبني كما أحبك ؟
أردف هو الأخر بتنهيدة وقال : عبلتين وعبلة والله أني حتى امأذان!
ثم ضحك الاثنان وأكملا أمسيتهُما التي انتهت بهما نائمين ملتفين في أحضان بعضهما.
فجأة فزِع كلُ من في الزريبة وقام العاشقان على جلبة الفُران وهلع النعاج ، وذعَّرة الرِّيمان .
اليوم هو عيد أضحى العجوز الذي أقبل منتشياً فقد ( جَاكرَ ) أصدقاءه على أن عِيدَته الأكبر والأسمن والأثمن .
وهو حازبٌ شفرته المفتوقة بعناية توجه نحو الأكحل المشدُوه الذي لم يعي من تلك الجلبة شيئاً ولم يُدرك النهاية التي تنتظره في صباحه هذا ، في حين أيقنت العاشقة هلاك كبشها فأخذت تُشتِّت انتباه الرجل كي لا يصل إلى حبيبها ويقتاده نحو قدره المحتوم ، تُصارع من أجل حمايته وهو يحاولُ الاختباء دون فائدة وهي تُذعر وتجري دون هُدى وفي صدرها اضطرمت نارٌ لا تُحتمل ، تقفز يمنة ويسرة وتُقَلعبُ ( تَنكَ ) الماء وأحواض الشعير دون فائدة ، فعشيقها في قبضة يد العجوز السَّعيد.
فُجعت وضاقت الدنيا في عينيها وتغشتها حالة من الهلع فحبيبُها الذي ملأ قلبها الخالي سيرحل إلى السَّماء ويتركها نهبَ عيون فُران الزربة وقصة لا تنتهي على ألسنة النعاج ومثار شفقة لا تقبلها.
تصيحُ وتصيحُ حتى غاب غاليها عن نظرها وازدادت هيجاناً وحزناً ثم هدأت للحظة وتأملت المُشْفقين من حولها وقالت بصوت مشروخ ، لا حياة لي بعد هذا اليوم ، سأسبقه إلى السّماء سأكون أول مستقبلين لروحه ، ثم انطلقت كفرسٍ جموحٍ وقفزت من على شبك زربهم وانطلقت تعدو كالريح حتى استقرت بها قوائمُها تحت شجرة الأثل التي وثَّقت تاريخ عشقها، وكانت مسرح لقاءاتهم العاصفة .
التقمت حبلَ أرجوحةٍ لصغارِ القرية كان مُدلى بِعِدْفٍ من أعْدافِ الشَّجرة وأخذت تلف نفسها وهي ( تُذَعِّر ) : السّماء السّماء !! حتى أحكم الحبل قبضته على عنقها واتجهت عيناها إلى السّماء وشريطٌ مادته الحزن مر أمامها في عجل ثم ارتسمت ابتسامة على شفتيها وجحضت عيناها وصمت العالم من حولها وأظلم.
الأكحل المفجوع استسلم لقدره وأيقن رحيله وأشفق على رفيقته التي تركها خلفه تُقاسي الفقد .
قبل أن يتله العجوز للجبين أخذ يتفحص جسده المترع باللحم والشحم كآخرِ نظرةِ اطمئنان لسلامة كبش عيده ، مرَّر يدهُ على بطنه ثم ظهره ثم رقبته المكتنزه حتى استوقفه بروزٌ أثار استياءه .
حوقلَ العجوزُ واستغفرَ ربه واستعاذ من الشيطان فقد تيقن عيباً في رقبة الجامد المُستسلم شعر معه بالحزن واوعز إلى مرافقه بإعادة الكبش إلى رِفاقه المفجوعين في الزَّربة.
شعر أنه وُلد من جديد ولم يفكر إلا فيمن تقتُلها الفاجعة، وود لو يفلت من يد مُمسكهِ ليُسابق الريح إلى مخدع غاليته .
دخل فأذهله وجوم الرابضين وأخذ يفتش عن نصفهِ الأخر بين نِعاج الزَّرْبة .. لا وجود لها وقف للحظة والصَّمتُ هو سيد الموقف بادره كبشٌ عجوز بقوله : لقد آثرت أن تكون أول المستقبلين لك في السَّماء، لقد انطلقت جهة المرعى ، لم تشأ أن ترحل وحيداً .. لقد أحبتك بجنون ، ورحلت بجنون.
صعق الأكْحل البيشي. وطارت به قدماه إلى أثلتهم ليجد نصفه الآخر جسداً مُسجى بعينين جاحظتين منطلقتين إلى السَّماء.
وابتسامة لم تزل دافئة مُرتسمةٌ على وجهها الصغير .
تسمَّر في مكانه لبُرهة يتأمل وجه الراحلة ثم انفجر باكياً وأخذ ينطح جِذع الشجرة السَّامِقة وكأنه يتوسّل لها أن تأخذَهُ إلى السَّماء .
استمر في النطح دون توقف حتى اصطبغ الجذع باللون الأحمر وخر الأكحل صريعاً بالقرب من حبيبته الراحلة وعيناه مشرئبة إلى السّماء .
بكت نعاجُ الزَّربة الراحلَين وبكى العجوز وبكت الشجرة وبكى الحبل وحَشَّ العجوز كبشاً آخراً.
أقف احتراما” لك وبكل فخر أقول لك
أنت مبدع ورائع والله العظيم.
ياشيخ ماشاء الله والله كانها حقيقة بسبب الوصف الجميل الاخاذ ٠٠٠٠٠ تبارك الله