عاد من سفره قبل أشهر بكثير من الخيبات، و ( راديو ) بسمَّاعة واحدة ونصف أنتل،بعد أن تخلى عن حُلمه في وظيفة تنتشله من حياة الرّعي والنّصيد التي ملها، والتي يرى أنها لا تليقُ به، ولا بجسده النحيل، حيث يرى أنها تُتلف حسه الرومنسي.
كل يوم يرتدي “شوهان” شميزه الأحمر وحوكه الذي يحرص على تثبيته بحقاب من القماش القطني المفتول، شُدَّ على بطن ضامرة بها عدد من الكيّات القديمة.

“جِهافه” المُجعد الكثيف ضَمِن لمشطه الحديدي ذي القبضة مخبأً جيداً في مؤخرة رأسه، وشاربه الذي اقتات عليه القلق يُضفي عليه شيئاً من البراءة وبعضاً من الحكمة كما يدعي.

يحمل مذياعه على كتفه كل يوم وما أن يهبط الوادي حتى تبدأ انغامه في اعتلاء موجات الهواء التي تبلغه آذان المُعلـِفات وجانيات الدِّجر وجامعات الحطب من “عـَزَبات” القرية، والقرى المجاورة، فتارة يبينُ صوت وتَرِهِ وأخرى يغيب خلف أشجار الأثل والعروج.

وهو “زامخٌ” لا يعير الساخرين من أترابه أي اهتمام، يشق بطن الوادي، تملأه الثقة، ويحمله اليقين أنه محطَّ أنظار المـُعجبات، فهذا الوادي لم يشهد (متعيشقاً) بمثل جاذبيته من قبل، فهو الأكثر وسامة بسُمرته ومهارته في اختيار ملابسه بعناية فائقة وذوق لا يمتلكه أهل القرية على حد زعمه.

هكذا كان يقينه ،وهكذا كل يوم يتنقل على غير هدى بين “الرِّداح” و “الزُّهوب”، ليُسمع المنشغلات بأعمالهن ما يُموسِقه مذياعه في محاولة منه لخطف قلب إحداهن.

لا يمكن أن يترك زبيراً إلا ويطأه بحذائه المطاطي المُزيَّن بفص معدني ابتاعه حين “شايم” آخر مرة، ولا عقمٍ من عقومِ الوادي إلا وينيخُ ركابه عليه لبرهة محاولاً لفت انتباه فتيات الوادي المتهامسات بسُخرية كلما مر بالقرب منهن، مبتسمات تارة ومقهقهات تارة أخرى، وهو “زامخٌ” كعادته مستعرضاً بشميزه الأحمر الذي يحرص على ترك أول زرارين منه مفتوحة لتُظهر بعض شعر صدره المتجعد ذو البشرة النصف شاحبة، وحوكه المتجاوز ركبتيه ببعض بنان، كاشفاً عن ساقين نحيلتين بها بعض الندوب القديمة و”الصنافر”.

هكذا اعتاد كل يوم متأملاً أن يظفر باهتمام إحداهن فهو على حد وصف أمه المُُحبِط له أنه (متعيشق خُبعة)، لكنه يرى نفسه خلاف ذلك، فالفتيات ينتظرنه كل مساء في الوادي،ليستمعن لما يبثه مذياعه من شجن، وليتأملن تسريحة جهافه، وقميصه الأحمر، وحوكه المشدود إلى حقابه، وشاربه المتآكل.

قضى سنوات على هذه الحال لم يتغير منه شيئا، نفس المذياع، ونفس الجهاف المتجعد، ونفس الشميز والحوك سوى أن عدد الكيات في بطنه ازداد قليلاً، وبعض “صنافر” ساقيه التأمت، ومشطه الحديدي أتى على نصفه الصدأ، وأمام ذلك الثبات كان الوادي بما فيه يتغير كل لحظة، ففتياته تزوجن وجاءت أخريات، وعددٌ من العقوم التي كان يموسق فوقها آهاته اندثر.

أحلامه تتوالد دون تحقيق،حتى أصبح حديث الوادي، وسُمار الليالي المقمرة على تلال القرية.

لا ينقطع صوت مذياعه عن إرسال ترانيم “سميرة توفيق”، و “صباح”، و”أمل كُعدل”،وشيئاً من شجن “الحارثي” حيث يعتبرها ورداً لا بد أن يشق صمت القرية كل مساء قبل أن يعسفه النوم على قعادته المتهالكة بطراحة عشتهم.

ما أن يموت حلم حتى يولد آخر، وهو على ذات الحال، مابين زُبر الوادي وجروفه، وأحلام وأمنيات بدأت تمله، وساخرين يزداد عددهم كل يوم، واستياء أمٍّ لم تعد تستطيع كتمانه أمام صديقاتها في جلسات المساء المعتقة برائحة القشر.

وفي إحد مساءاته العاشقة وهو يمخر العقوم والزهوب حاملاً مذياعه، مُشرعاً صدره للريح وقد استقر ذو القبضة الحديدي في مؤخرة شعره، إذ بفتاة قد أعياها حمارُها، وعجزت أن تُحسن شد محازم العلف على ظهره، فتارة يُطابق ذات اليمين وأخرى ذات اليسار.

انتفض الرجلُ كملدوغ، وحملته قدم النخوة وأمل اللقاء بفتاته الموعودة، وانطلق يُسابق صوت مذياعه، مكفكفاً نصف حوكه الذي دسَّ أطرافه الُمكثلة بين حِقابه وخاصرته.

وصل إليها وابتسامة الفرح منشقة عن ثنيتين مفقودتين وناب منخور.
لم يكترث لها كثيراً حيث اللحظة لا تحتمل التدقيق في بعض خساراته القديمه.

استقرت به قدمُ “الفزعة” عند رحلِ الحمار المرتخي، وأخذ يشد بطانته بطريقة تنبئ عن خبرة سابقة، وهو “دالعُ” الفم لم يُزحزح عينيه الصغيرتين عن الفتاة التي وقفت تراقب وبدأت هي الأخرى مرتبكة بشيىء من الخجل.

أنهى شد البِطان واستدار ليُحمِّل حزمة العلف ويضعها على الرحل وسط سخط الحِمار وانزعاجه امتمثل في حركته المستمرة وزفيره الحار.

ثبـَّت الحزمة الأولى، وبينما استدار لحمل الثانية انتوله الحمار بـ”زبطةٍ” غاضبة استقر معها حافره تحت سُرته، فكانت آخر عهده بالنور، وآخر عهد “حِقابه” بخصره النحيل.

جحظت عيناهُ واندلع فمه ليسقط بعدها متكوراً دون أي زفرة، والحمار انطلق “معنفلاً” ناثراً مافوقه من علف، والفتاة في ذهول وحيرة ما بين حمارها الهارب، والمتكور أمامها دون حراك، اختارت بعدها أن تجمع ما تبقى من علفها وأن تقتفي مسرعة أثر الشارد.

“شوهان” على حاله دون حراك، مكوَّرٌ فوق حوكه، ومن حوله المشط الحديدي، وحقابه المقطوع، والمذياع يرسل أغنياته التي حملتها الريح لكل الوادي، يردد معه الرعاة، والمعالفة :
أسمر عبر مثل القمر
عالي سماه
طرفه كحيل
خصرة نحيل
زاهي بهاه.

من jubran4u

فكرة واحدة بخصوص “العاشق ذو الشميز الأحمر !”

التعليقات مغلقة.