القمر في كامل بهائه تزفه النجوم في ساحة السماء، والسُّكون يُحكم قبضته على المكان، سوى صريرٍ متقطعٍ لجندبٍ عجوز مندسٍ خلف جرةٍ نصف ممتلئة.
وهي تتوسد صدره الذي استدارت في منتصفه ( كيـّةٌ ) قديمة، مداعبة ما تبقى من شعيراته المتجعدة، وتوشوش له عن حلمٍ أصبح ممكنناً منذ اليوم بعد أن باع قيراطين من زهبهم، وانتقد قيمتها كاملة من الشيخ “عبده جيلان”.
هو الآخر يمرر يده بهدوء على شعرها المُرشش بالطيب، والمُحكم بمصر أزرقٍ ذو خطوطٍ ذهبيةٍ رفيعة، يتأمل احتفال السماء.
ويبادلها الحديث عن البقرة الحُلم التي أصبح بمقدورهما شراءها، وكيف سيختار الأفضل من السوق.
قاطعته بقولها: وشرط تكون منتوج، ترى عهد عليه ما أقطع عنك حقنة ولا سمن حتى أموت.
قهقه قليلاً وهو يهرش كرشته المكورة، و قال: ما عليك، إن شاء الله تطيح ببقر الأشراف.
انتشت الحالمة، وارسلت نظرة فرح التقت بنظرة ثقة ارسلها هو الآخر، وقالت: من الغد سأبرِّز لها جهة السَّمرة الغربية، بالقرب من مربط “الحمول”.
قطع حك كرشته وقال بنصف ابتسامة ساخرة: بقرة منتوج تربطنها جنب “حمول”!
أجابته: هو المكان الأنسب والأسلم لها، فهناك ستكون بعيدة عن أعين الحُساد خصوصاً امشقبة “ليلى امسعود”.
استوى على مؤخرته بعد أن كان مستلقياً وكأن ما سيقوله هو الفصل في أمر مدرس البقرة، كفكف حوكه إلى مافوق ركبتيه وقال : حرام ما تنحط إلا في قَـبٓـل البيت، وليسمع بها شامي ويماني.
استوت هي الأخرى في جلستها، وارسلت أدللتها المعضيّة خلف ظهرها، مستنكرة منه ذلك الرأي خصوصاً وأن بقرتهم الأولى ماتت مشقوبة قبل سنوات.
قالت له : أنت من جدك ؟
شتحرمنا هذي البقرة اللي لنا سنتين مترجين لها؟!
قال أبداً هذا هو الشُّور، قاطعاً عليها أي فكرة أخرى.
هبّت واقفة وهي تتمتم ببعض كلمات لم تبن له، ما أثار غضبه، حيث بادرها : ماهو تقولين ها؟
ردت جازعةً : أقول أنت فُـشُوري، وماهمك إلا الناس تقول فـُلان اشترى واشترى، ونص القرية شقوب، وأقسمت أن لا يكون “مـَدْرس” البقرة الجديدة إلا خلف عشتهم وبالقرب من مربط “الحمول”.
احمرت عينا الرجل وبدأت أوداجه تمتلئ بالدم الحار، وحدجها بنظرة غاضبة قائلاً: لقديك امرجل هنا ذيك الساعة تحكمي.
جاءت كلماته كالسّوط على ظهر مشاعر الحب التي تُكنها له، وبدت كالمفجوعة، واغرورقت عيناها بالدمع الذي اكتفت به هذه المرة، وانصرفت مهرولة إلى عشتها النصف مضاءة بفانوس بدا في آخر رمق له، لترمي بجسدها المرتعش على قعادة شبه مهترئة، بينما أوقف الجندب العجوز صرير شجنه.
وهو عاد إلى تأمل السماء بعد أن استلقى كعاشق يبحث عن صورة محبوبته بين النجوم المتلألئة في سمائه.
هوت به عينه ولم يفق إلا على جرة محطمة، وعشة لا حياة فيها، أدرك حينها أن صاحبة “المصر الأزرق” قد حملها الحنق إلى بيت أهلها، وما أن ( تضاحى) الصباح حتى شد حموله متجهاً نحوهم، ليجد عمه قد تفيأ طل عشته متوسدا سارع شبريه، وهو يحتسي فناجين القشر من جبنة للتو التقطتها عجوزه من قلب مركبها اللاهب جمراً.
القى التحية، وانتول رأس عمه العجوز مقبلاً، وكذلك فعل مع عمته التي ما أن ( تواطى) جالساً حتى مدت له بفنجان القهوة.
بدى منكسراً وهو يسأل عن زوجته الغاضبة التي تركت له البيت للفراغ والوحدة.
اكتفت العجوز بالمراقبة بينما بدأ عمه في سؤاله عما حدث بينهما والسبب الذي أتى بابنته “مذاورة” في غلس يومه هذا.
حكى له القصة وما أن انتهى من سردها حتى بادرته العمة العجوز قائلة ( كشفة كشفتكم أنتم الاثنين ) ثم انفجرت ضاحكة، وثنى العجوز بعد أن ابتلع جغمين من فنجان قهوته بضحكة جب منها الحمول المربوط في مدخل الدار.
ثم سأله ضاحكاً : أنت صادق ؟!.
لم يجبه بشيئ هذه المرة، ثم أردف العجوز مستحضراً كل تجاربه في الحياة : يا بوك محاربه على امغسل وامغدى ماشي!.
كأن ممعاكم خاتمة أنت وحرمتك؟!.
وعى الزوج مقصد عمه، ثم انفجر ضاحكاً، وضحكت العجوز المنشغلة بجبنتها، وسمع الجميع ضحك الزوجة المنصتة بجانب (ساس) العُشة، كما عنفَّـل الحمول مسروراً، وذعّـرت الفُـران مبتهجة مع الجميع.