خُيوطُ الشَّمسِ تتسللُ إلى أعْشاشِ العصافير وتوقِظُ النَّدى الغافي على تيجان أزهار (حِيَفِ) “ابن امشريف” وتبثُ الحياةَ من جديد في حقولِ القرية التي توسّدت جبال الشّرق واتخذت بلغازي مطلات ترصد العابرين من خلالها.
“سالم” من فتيان تلك القرية البُسطاء عِوَضَ أمه بعد رّحيلِ والده منذ سنوات.
اعتاد كل صباح اقتياد شاتين لأمه مع صرويها وكبشاً وحيداً لجارتهم العجوز “عبسية” إلى الحقول أسفل القرية والتي تعتليها حِيَفُ “مفرح امشريف” حيث ينبت الحَسَكُ و “الميبدن” وشُجيراتُ للبنِّ .
كان سالم مولع بفتاة ترُدُ بالقربِ من مرعاه على بئر ماءٍ قديمة أسفل دارهم المُشْرف على الحقول.
لم يكن يُبادلُها أي حديثٍ مُكتفٍ بمتابعتها من بعيد وإطلاق بعض ترانيم العاشقين التي يسمعها عند نزولهم لسوق الخميس بعيبان مع المتسوقين في شاص ( أمحمد امْخَيـْـرَه ).
كان يحترقُ كل ليلةٍ وهو ينتظرُ بزوغ الفجر ، ليس براً بأمِّه ولا شفقة بكبشِ جارتِهِ العجوز “عبْسِية” الذي تُعِدُّه ليكون أُضْحيتُها في عيدها القادم ،بل كان يقتله الانتظار لرؤية فاتنته الصغيرة.
ما أن شعشع النُّورُ حتى انتفضَ من مرقدِهِ كـ( مَقْحُوطٍ ) وانْتَوَلَ حَوكَهُ وشَميزَهُ النِّصْفَ ممزق ناسياً سِرْوالهُ وعِكَاوَتَه الطَّريّة ، مُقتاداً هَوْشَهُ التي انطلقت يَسُوقُها الفـَـزع .
وما أن وصل إلى البئر حتى “ارْتـَـكزَ” كحدٍ منتظراً إشراقة فاتنته .
عاقداً العزم على أن يسكُبَ مشاعِرهُ هذه المرة كالماء لفتاته ، ولها أن تنتوِلهُ أو تتركه لـ( بَـراشِمِ ) الشِّياه الظَّامئة.
قلبه الصغير كاد أن يخرج من بين أضلاعه ففاتنتهُ بدت له قادمة من بعيد متكسرة في مشيتها متغنجة وهو ينظر بطرف عينية مُنكًساً رأسه الخجلُ.
الكبشُ والشاتان وصرويهما انشغلت بملاحقةِ الطريِّ من الحَسَك و (الميبدن) ، وسالم انشغل بالقادمة التي سلبته لبه.
بادرها بابتسامة خجولة ،وألقى تحيته بصوت خافت بالكاد سمعته :
– أنتِ بخيرن واجميلة ؟!
· بخيرن نحمدلله! شيف الله بشه؟
– الله يعافيشي .
· سلمته.
جمع ما تبقى من قوته وأخذ نفساً سُمع له أزيزُ صدرهِ ثم قال :
– أجميلة .. آه ياجميلة بقُـلَّشِي بحاجَةٍ لي مدة خاشنْها بقلبي ،قد خذنْ مني ما بقي حتى امْرُقاد مَعَدْ أعْرِفُو من يوم رِيتَشِي تَرِدينِ وتِحطبين من نَحِي، والله والله أني صَاقِدِنْ ، وما أشْذِبْ عَلِيشي بحَرْفِن واحدن الله يَعلم .
ردت عليه بهمس : مَنْتَ مَيْد وسَالِم ؟! بَانِي عَاجِلةٍ مع بَطُوه وسِيعَةٍ في أمبيت، قالتها وقد ازدادت حمرة وجنتيها .
انتهى ما شَهَقهُ من هواء وتقطعت أنفاسه وبدى متعرقاً ثم حك رأسه وقال :
جميلة .. والله إني أحبِشي وذي الحُب قَدْ شَلَّ قلبي مَهَلْ ذي الفَرِير مَاياشل مِرعي اميبدن ذيِ ؟؟!
والله والله لو يُرجمون بي بِديرَةٍ بعيدةٍ عَنْشِي إن حبِّشي مايِهِيشَ من قلبي.
ابتسمت بخجل وبادرته: ووه وصباحي وسَالم !! أنته صَاقِدنْ ولا تمزح !؟ مَهَا ذِي الهَرج مَعَشَهْ اليوم ؟
بادرها : جميلة والله أني صاقدن أشْبَحي لي شِـيفَنِي اليوم قَدْني عَصِيمِن مَعَلّه مجِلد حتى امْزاد مَعدْ أهْنِي بو قد خَمِدَّهْ .
الكبشُ والعنزتان وصرويهما تمادت بهم الخطوات حتى استقرت وسط حيفة “مفرح امشريف” التي أعُرَشت فوقها سيقان القِشْد وتزاحمت بِجَنْيها شُجَيْراتُ البُن .
وسالم يصارع الهوى مع جميلة يصور لها كيف أن حبها استباح وقارَهُ وانهك قواه وأسهر ليله !.
( الهَوشُ) استباح جني “امشريف” من القِشْدِ والبن، وجميلة استباحت رُوحَ سالمٍ ، وبينما المشهدان في أوج حرارتهما اغتالت فرحةُ اللقائين رَصَاصَةٌ استقرت في رأس كبش “عبسية” العجوز.
وانتبه المكانُ بمن فيه ثم أردف صوت الطلق صيحةٌ شقَّت المدى لتستقر في آذان الغارقين في غزلهم.
“ابن امشريف” يتوعد (مُفيِّشَ) زرُوعِهِ ، ويقسم أنه سيُثنِّي برأس صاحب الكبش إن وطأت ( هَوْشَه ) إحدى حيافه مرة أخرى .
تفرق جمع الحبيبين ، فسالم لم يرتد إلا من بيت “عبسية” يبلغُها رحيل كبشها الوحيد على يد “ابن امشريف” رمياً بالرصاص ، وجميلة خلفت جَرَّتها حُطاماً وغابت خلف غبار الطريق ،وهامت شاتي أم سالم وصرويها ، وكبش “عبسية” مضرجاً بدمائه.
“عبسية” لم تُحرك ساكناً وأكملت ارتشاف فنجانٍ من دلتها القِشْر ، بدت هادئة أمام فجيعة سالم الذي اعتقد أن الأرض ستهتز تحت أقدامها غضباً لرحيل وحيدِها وأضْحِيةُ عيدها القادم.
يعرف سالم أن الكبش يشغل اهتمام العجوز ولا يمكن أن تسكت عن أي أذى يُصيبَه كيف وهو قد تركها ميتاً على يد ذلك القَحْم “ابن امشريف”.
التفتت إليه بكل وقار وهدوء ثم صَدَمَتهُ بابتسامةٍ أردفتها بـ(جُغْمٍ ) أخيرٍ من فنجان قهوتها.
واسالم أنتَ سَلِمتَه وانا امّشِه ؟ ما بِشه خْلافٍ ؟ .. سألته العجوز وهي تَرْبُتُ على كتفه ، وبذهول أجاب سالم بتحريك رأسه بالإيجاب.
ثم طلبت منه أن يذهب للبحث عن شاتي أمه وصرويهما ويعيدها للبيت فأمه بالتأكيد قلقة الآن.
اندسَّ “ابنُ امشريف” بين شُجيرات البُن علَّه يْضفَرُ بصاحب الكبش الذي حتماً سيأتي لاستطلاع أمره .
وماهي إلا لحظات وقادمٌ لم تتَّضِح مَلامِحهُ في مرمى نظر المُنْدسِ .
لم يَجْهَد “ابن امشريف” في مَعرِفةِ القام ، ما جعله يخرج مسرعاً وهو يعيد ترتيب ملبسه وبسط أكمام شَمِيزهُ المَكفوفة على ساعديه المُشْعِرين، ثم رسم ابتسامة أبانت ثنيتيه المفقودتين.
أخذ في الترحيبِ بحرارةٍ ، وهي في الطَّرفِ الآخرِ تجرُّ بعض كبريائها وتتبسم بهدوء .
لم تَنْبس بِبِنْتِ شَفةٍ واكتفت بابتسامةٍ بسيطةٍ ثم وقفت بالقربِ من فَقيدها المُضرّج وتَمتَمت : معَوَّضة بخير إن شاء الله .
تأكد لـ “ابن امشريف” أن رَصَاَصته استباحت جُمْجُمةَ كبش “عبسية” وأن صاحب هذا المذبوح هي من تشاطره بعض أحلامه الهرمة.
شعر أنه سقط من علو ، كيف وهو لم يَدّخِر جُهداً في تقديم ما يليق بحلمه القديم.
“عبسية” لم تستطع إخفاء شوقها رغم فجيعتها في ذلك الممدد.
وحار فؤادُها بين حُزنٍ على الرَّاحلِ وفَرحةٍ بهذهِ الصُّدفةِ الغير متوقعة مع “ابن امشريف”.
لم يطل وقوفها .. التفتت إلى الغارق في خَجَلِهِ وقالتْ لهُ بنصفِ ابتسامةٍ : عَوَضْ هذا الكَبش زَيُّه !
ثم انصرفت مُخلفةً وراءها ( قحماً ) غير الذي كان قبل اللقاء.
في مساء اليوم الثالث من رحيل الكبش وبعد أن أنهى إمام مسجد القرية صلاة العشاء تقاطر بعضُ المُصلين إلى بيت “عبسية” يتقدمهم “ابن امشريف” وقد اتزر بحوك جديد مُقلم وزين رأسه برزم الخطور وأفاض على شعره نصف قُفٍّ من السمن البلدي الخالص ، وماهي إلا لحظات حتى شق صمت القرية (غَطْرُوفٌ) أيقظ النائمين ،توافد بعدها فضوليو القرية من الأطفال والنساء .
وأكدت أصوات النبابيت اعتقاد أم سالم فـ”عبسية” نالت من “ابن امشريف” ، وكان هو عوضها.
لا يعرفُ أحداً بما في قلبي العجوزين من عشقٍ قديم ، لكن الكبشَ عجّل بعيد صاحبته .
فرحت القرية بعريسيها العجوزين.
وتناقلت نساؤها قِصَّة كبش “عبسية” ورصاصة “ابن امشريف” متندرين بهما.
أم سالم باعت شاتيها وصرويهما واشترت كبشاً.
وجميلة لم تعُد تَرِدُ بئر الماء حيثُ خطفها ابن خالتها المسافر منذ زمن عروساً ولم تعد للقرية .
و”سالم” المذبوح ، كل صباح يحمل جراحاته ويسيرُ خلف كبشِ أمه الوحيد إلى المراعي المجاورة باحثاً عن بعض قِشْدٍ وشُجَيراتٍ للبُنِ بحسب تعليمات أمه التي تكررها على مسامعه كل صباح.
لم يعُد “سالم” يترنُم بتلك الأغنيات ولم تعد الصَّباحاتُ تُغريهِ بجديدها.
وأضحت الحياةُ بالنسبةِ له في غاية الكآبة حتى أنه اسْتَسرَّ للكبش الواجِم أمامهُ ذات مرعى بأنه يتمنى لو تستقر الرّصاصةُ التي تبحثُ عنها أمَّهُ هذه المرة في رأسه حتى يستريح من عذاباته وحُزنِ فقده لجميلة.
وجميلة ابتلعها المجهول ولم يبق منها إلا قِصَّة العشقِ التي تقض مضجع المسكين سالم ، وكِسَراً من جرتها المُتحطِّمة يوم هروبها ما زال سالم يحتفظ بها في زنبيلٍ مُعلقٍ فوق بابِ حُجْرتهِ.