عاش ردحاً من العمر عازفاً عن النِّساء ، كان لا يعيرهن أي اهتمام ولم يُحركن شعرة في (جِهَافِه) مذ أن بلغ الحلم كما كان يقول لرفاق الحقول حين أحاديث المقيل .
عاش هذا الرجل منصرفاً إلى حقله الصغير وبقرته وعددٍ من نعاجٍ متهالكة في إحدى تلافيف مرتفعات بلغازي الشرقية .
لم يخطر ببال امرأة عرفته أن يهمس لها برغبة أو أن يُعيرها أدنى اهتمام مع أن شيئاً من لوازم رجولته لم ينقصه .
مرت السنون تلو الأخرى واعتلى الشيب مفرق رأسه وبدت ابتساماته تفتر عن حَنكٍ خالٍ من البياض ، واحدودب ظهره وتراكمت قناني ( أبو فاس) الصغيرة تحت ( شُبْريه ) الرّث وارتصت عُلب الفيكس على( تَخْتهِ ) المتكئ بجانبه .
في صبيحةِ يوم شتوي والريحُ الشرقية تعوي في مداخل الأودية أفاق أهالي القرية على نواح موجوع ، الصوت ليس بغريب ولا بعيد ، وماهي إلا برهة حتى تأكد لهم أن الريح نثرت صوت عجوزهم في أزقة القرية ، حينها توافد الرجال إلى ( خَدْروشِهِ ) المتواضع متسائلين عن الوجع الذي باغت جسده ليلاً غير أنه فاجأهم بسر توجعه وتلك الأنات التي سافرت بها الريح الباردة فجراً .
لقد أفاق مارد العشقِ في داخله رغم تهالك جسده الذي أكلت أطرافه السنين .
ألح على الواجمين المتحملقين حوله بطلبه للزواج وبصوت مرتفع تفطرت له أفئدة السامعين أريد ( مِخْبِية ) !!!
حِيرةٌ ارتسمت على وجُوهِهم مَنْ هذه ( المِخْبية ) التي سَلبت لُب كهلنا في هذا الوقت المتأخر من العمر ؟!
وأي شيطان للحب تسرب في أوردة هذا المتهالك ؟؟؟!!
بادرهم بصوت متهدج : امْجارِية ( مِخِبية ) !!
ولا أريد سواها أي امرأة !!
سَخرَ الجمعُ من كَهْلهم وانصرفوا ما بين مُحوْقلٍ وضَاحكٍ وواجم .
تركوه يصطلي بنارِ عِشقهِ ويُطلق الآهات تلو الأخرى حتى أصبح حديث الرجالِ في حُقولهم والنِّساء في مجالسِهن .
لم يكنْ سواه يعصرهُ الألم وقسوةُ الحرمان وبُعد ( مِخْبِية ) .. كانَ يلومُ نفسهُ كيف لها أن تَبعثَ هذهِ الرَّغبَة اللعِينة في هذا الوقت الحَِرج ؟!
لم يكنْ يُدرك أي تفسيرٍ ولا يُقدم أي تعليلٍ لسائليه ، الشيئ الوحيد الذي يؤمن به ويؤرقه هو ( مِخْبِية ) وحسب .
لم يكن يعرف من أساليب التعبير عن وجده إلا الأنين والنواح كلما رفَّ جِنْحُ طائرٍ أو سَكن .
مرَّت السنوات والنَّارُ تتأجج في صدره والسَّاخرون منه يتزايدون .
وفجأة …. انقشع الظلامُ عن صمتٍ رهيب ٍ إذ لم تحمل الريح أي أنَّةٍ أو آهةٍ في ذلك الصَّباح .!
القرية صامتةٌ تماماً !
لقد رَحل !!
اعتلت رُوحُهُ السّماء وتركت خلفها كل السّاخرين ، والواجمين ، والضَّاحكين ، وبقرة وحيدة … وقبل كل أولئك .. تركت الحُلم الأخير … ( مِخْبِية ).