القريةُ في هرٍجٍ ومرْجٍ ، والرِّجالُ يتوافدونَ على دارِ شيخِهمُ المُمدّد على قَعادتِهِ يتقلَّبُ كملدُوغٍ .
بطنهُ المنتفخةُ تُفزعُ كل من يدخل للاطمئنانِ عليه.
لم يُفلح كل من وقفَ على حالتهِ من حكماءِ القرية رغم خبراتهم .
زوجتُهُ “ليلي شَاطريَّة” فقدت الأملَ في خُروجِ زوجِها من مِحنَتهِ سالماً ، وانتبذَت من عُشَّتها مكاناً قصياً تبكي وتتوسَّلُ الفرجَ لذلك المُقعَّر المنفوخ.
فسَّر بعضٌ ممَّن عاين حالتَه بأنَّهُ ربما ابتلع “فَسَّايَةً” اختبأت في ورقةِ بقلٍ دون أن يدري، والبعضُ قالَ ربما كُبن من حليبٍ مُتخثَّرٍ، وآخرونَ قالوا هو الأجلُ لا محالة.
“شَوْقَة” العجوز تُراهنُ على أنَّ لا شيء يدعو للقلقِ، وتمازحُ الشيخَ وهي تضربُ بيدها المُجعَّدة علي كرشهِ و تقولُ ضاحكةً : هذي كَبْنةَ يا قاسم ؛ يمكن دَعَتْ عليك بها كَهـْلة ، أبرى ذمتك من حقَها تِحْيا .
ثم تنفجر ضاحكةً والشيخُ يُجامِلها بابتسامةٍ يُخالطُها ألمٌ شَديدٌ وحنقٌ.
تداولَ الأهالي نبأ مرضِ الشيخِ وتَعذُّر علاجهِ، وتناقلَ الخبرَ النِّساءُ والصِّبيةُ والرُّعاةُ .
وانطلق “عبده وِزْرَة” يُخبرُ مَعَالِفَةَ الوادي ورُعَاته مِن أهالي القرية والمُنجِّعين.
الشيخُ في حالٍ قد تورده القبر ولا حيلة .
الدَّعواتُ تتقاطرُ إلى السَّماءِ في أن يخرجَ منها المسكينُ سالماً.
يومان والرجالُ يتوافدون على صَبـْلِ شيخهم ينظرون في أمرِ بطنهِ ، ولا جديد، سوى كرْشٍ يزدادُ انتفاخاً.
في ثالثِ الأيامِ وبينما “عبده وِزْرَة” كعادتهِ منطلقٌ بأخبارِ القريةِ على زُبُرِ الزُّهوبِ وعُقُومِها سمعهُ “وبالٌ” كان يقفُ على بعضِ نياقٍ ترعى في غابةِ سدرٍ أعلى الوادي المُمتد، استوقفه يسألُ عن هذهِ القريةِ فهو راعٍ عابرٌ لا يعرفُ أحداً .
أجابه “أبن وِزْرَة” أن هذه القرية تُدعى “بُعجانة” وشيخها هو “قاسم ابن يحيى بُعْجَان” واسترسلَ في الحديث عن حالِ الشّيخِ وكيفَ أنَّ أحداً لم يعرفْ سرَّ انتفاخِ بطنهِ وأنَّ الجميعَ مسلمٌ لأمرِ الله.
ابتسم الوبَّالُ وقال للمُنتصبِ أمامهُ في بلاهةٍ : وما هو نَفَخْ بَطْنه ؟
أجابهُ الآخرُ بأنَّ أحداً لم يعرفْ حتى الآن .
هَرَشَ الوبَّالُ ناصِيتَهُ وقالَ : ما عليك .. شيخَكُم دواه عنْدي ولا كلافة فيه إنْ شاء الله.
جَحظت عينا “ابن وِزْرَة” وانطلقَ دونَ أنْ ينبسَّ ببنتِ شَفَةٍ على الوبَّالِ المُبتسمِ، وغابَ خلفَ “مِغْبرٍ” حالَ دون رؤيتهِ .
لم يلتقطْ “ابن وِزْرَة” أنفاسَهُ إلاَّ في مجلسِ الشَّيخِ الآيسِ ، وأخَذَ يَصِيحُ : لِقِيتَ دَواكَ يا عَمْ قاسِم .. لِقِيتَ دَواكَ والله لقِيتُه !
حاولَ خادمُ الشيخِ الحيلولةَ دونَ ارتطامِهِ بِكرْشِ عمِّهِ المَنفوخِ وهوِ يقولُ لهُ : أقول..!! أنشُر كنَّك ؛ الشيخ مَحْشُوطْ بالبلا !! وأنت تصايح علىَ راسُه.
أشارَ الشيخُ إلى خَادِمِهِ أنْ اتركهُ، حتى اقتربَ منهُ وبادرهُ بسؤالهِ عن الدواءِ الذي وجدَهُ .
حدثهُ “ابن وِزْرَة” عن أمرِ الوبَّالِ الذي صَادفَهُ في الوادي ، حاولَ الشيخُ أنْ يستوي في جِلسَتهِ لكنهُ لم يستطعْ فأوعَزَ لخادمهِ أن يأتِ بهذا الرَّجلِ في الحالِ .
هب نصفُ المتواجدين في مجلسِ الشيخِ في طلب الوبَّالِ الغريبِ ؛ حتى أدركُوهُ وقد ملأ رُبعَ حَوْكِهِ “كـَيْناً” وأخذ يأكلُ ويرمي ببذرهِ لبعضِ النعاجِ الرَّاعية بالقربِ منهُ.
وقفَ الرجالُ على أمرِ هذا الزَّائرِ وحَكوا لهُ ما أبلغهم به “ابن وِزْرَة” حيثُ أكَّد ما نقلهُ لهم .
استبشرَ الرجالُ وقالوا إذنْ أنتَ معنا .. الشَّيخُ قاسم بين الحياةِ والموتِ .
صَرَّ ما تبقى من كَيْنٍ في حُذلتِه وامْتَخَسَ “دُبْعاً” قد انتصفَ لبناً من رَاحلتهَ وانطلقَ بعدَ أنْ أكَّد على أحدِ الرُّعاة أنْ ينتبهَ لنياقِهِ ويَحولَ دون أن تُفيِّشَ الزُّهوبَ النابتة.
دخلَ الجميعُ مجلسَ الشيخِ والمنتظرون في ترقبٍ ما بينَ مُتفائلٍ وقانطٍ ، وما أن وصلَ الغريبُ إلي الشَّيخ المُمدَّدِ حتى بادرهُ بالسلامِ وقال :
يا شيخ قاسم الجماعة قالوا لي بقصتك، ولكْ الله ما هِبتَ لمنتفخ من دَوَايا هذا إلا وينفس الله عليه.
قال له الشيخُ : وما هو دواك سيدي انته.
أخرجَ الرجلُ ملئ كفيَّهِ ” كـَيْناً ” وأمرَ بكأسٍ وصَبَّ فيهِ من “دُبْعِهِ” بعْضاً من لَبن إبلهِ وقالَ للشيخِ : كُلْ واشْربْ ولكِن لا تَدَعْ عليكَ حَوْكاً إلاَّ نَزعْتَه، وليُفسَحْ لكْ دَرْبُ الخلاءِ.
أكلَ الشيخُ ما تيسَّر لهُ من كـَينِ الزَّائرِ وشَربَ، وعادِ ماداً ظهرَهُ وقد عَرَشَتْ كَرْشَتُهُ إلى السَّماءِ.
استأذنَ الجَميعُ فالشيخُ أغْمضَ عينيهِ شِبْهَ غَافٍ وتَركُوه فاقِدِي الأملَ في عِلاجِ الغَريب ، حيثُ تمْتمَ بعضُهم قائلاً : كين !! كَبَّ كـُل أدوية رَبِّي ومالقي إلاَّ امْكِين !!
لم يُكتملْ قُرصُ الشمس اختباءهُ خَلفَ أفقهَ إلاَّ وكَرشُ الشَّيخِ تَرْعُد ، وأمعاؤهُ تُقرْقعُ وقد أقبلَ عليهِ الحقُ منِ أسْفلهِ .
صاحَ في خادِمِهِ : المُوت أجَا .. الموت أجا !!
فزِعَ كلُّ من في البيتِ وأقبلوا مُسرِعينَ نحوَ شيخِهِم الذي هَبَّ هو الآخرُ شاقاً صَفهم المُقبلُ عليهِ دُونَ وعيٍ وهو يصيحُ : انْطرِّيت .. انطرِّيت .
لم تُمهلهُ بطنُهُ ليستوي خَلفَ سَاترٍ يَستُرُه بلْ داهمَهُ كالأجلِ الذي لا يستأذن.
انفجرَ الشيخُ من دُبرٍ بما لا قِبلَ لهُ بِهِ وهوَ يَجري عَلَّ ساتراً يحفظُ هَيبتهُ التي أسقطَها كَينُ الوبَّال ولبنُهُ مِن عيونِ المفْجُوعين خلفه.
استقرَّ بهِ الحالُ خلفَ كومةٍ من الكِرسِ حَجبتهُ عن المُهرولينَ جَسداً ولمْ تَحْجُب عن مسامِعِهم طَقطَقةُ بطنهِ وأزيزُ أمعائِهِ و”حَقيطُها” ، وصيحاتُ الحمدِ والشُّكرِ التي تختلطُ بدعواتِ الرجاءِ أنْ يُيسّرَ اللهُ أمره.
“ابن وِزْرَة” اعتلى كومة الكِرْسِ وأخذَ في التمايـُلِ والتصفيقِ بيديه وهو يصيحُ :
الشيخ تبعثر وانتثرْ
الشيخ تبعثرْ وانتثر
هَرَعَت الزوجةُ بماءٍ ولحافٍ يُساعدُها خَادِمَهُ الذي انشرَحت أساريرهُ حيثُ أنهوا غسلَ أسْلابِ الشيخِ التي مُلِّطتْ ، وأحكموا لفّهُ في لِحافه وهو يئنُ ويتمتمُ بالحمدِ حتى أودعُوه عُشةُ الزوجةِ ومنعوا عنه الزوارَ ليومينِ قضاها في حَقيطٍ متواصلٍ تمنى ألا ينقطع عنهُ.
وفي ثالثِ الأيامِ بدأ رجالُ القريةِ يتوافدونَ على مجلسِ الشيخِ للسؤالِ عنْ أحوالهِ مباركينَ له الشفاء.
لم يكنْ على بالِ الشيخِ إلا ذلك الوبَّالُ الذي حالَ بأمرِ اللهِ دونَ موتِهِ منتفخاً، إذ أرسلَ خادمَهُ ليُحضره إليه يرافقه عبده وِزْرَة.
انطلقا يبحثانِ عنهُ في غابةِ السدرِ وبينَ رُدُفِ الوادي وأبلغاهُ برغبةِ الشيخِ في حُضُورِه.
أقامَ الشيخُ لهُ مأدبةً دعا لها الأعيانَ والأهالي من القريةِ والقرى المُجاورةِ ، وضَربتِ الطبولُ ثلاثَ ليالٍ لم تنقطعْ ؛ تتوالى على إيقاعاتِها صُفوفُ الرجالِ والنساءِ رقصاً لم ترقُصْه القريةُ من قبل، حتى “شَوقَة” العَجوز شاركتهم برغم صِلَمِها.
وفي رابعِ الأيامِ وهبِ الشيخُ للوبَّالِ بقرةً وكيسَ حَبٍّ وحمولٍ فتيٍّ، ثمَّ أمرَ اثنينِ من خَدَمهِ بمرافقته حتى مَشارفَ القريةِ مودعين.
غادرَ الوبَّالُ مسروراً تاركاً خلفهُ شيخاً سعيداً وقريةً مبتهجةً بسلامةِ شيخِها الذي ولدَ من جديد.