في حينا حمارٌ هو الجندي الأخير المتبقي من معارك الحقول القديمة، يحاول على امتداد يومه أن يُلفت انتباه الساكنين لوحدته القاتلة، صاحبه العجور رجل طيب وهادئ، مازال متشبثاً به رغم أنه لم يعد يسرجه لأي معركة، فهو الآخر ودع الوادي منذ سنوات، وتفرغ لتطبيب قلبه المتعب.
نافذة مكتبتي تُطل على حضيرته التي تخيم عليها الكآبة، وتتقافز فوق قصبها اليابس أمنياته المستحيلة، وتتعالى منها صيحاته التي لا تكاد تنقطع كل لحظة حتى بدى صوته كالنشيج، وأكاد استشعر زفراته الحرى، ووجيف قلبه المحزون.
مازال حاملاً سلاحه رغم إعلان وقف الحرب منذ سنوات، ولم يتبق إلا هو وحلمه في الانعتاق خلف سور جارنا العجوز.
كل يوم بل كل لحظة يرسل نشيجه دون أن يرتد له أي صدى، لم يعد ينصت له أحد من مدارس القرية، فكلها رحلت، كل يوم يحمله الحنين إلى أقران لا يعرف أي جهة ابتلعتهم وأي نهاية كانت قدرهم.
وأنا كل يوم أشاركه الحزن، وأضمد جراحات أمنياته في الانعتاق ببعض الدعاء له وكثير من الحنق لإزعاجه لي في فترات استكنانتي.