أكملت صرّ خمسينَ كِيساً دسّتْ في كل واحدٍ منها حبتي بُرتقال وحبَة تفاح وقطعة مُشبَّك و دُبْعَي موز ناضِجين.
الفرحُ عمَّ كامل القرية التي تنامُ على ضِفَّة الوادي فـ (قِرّانُ) “شُوقَه” عُقد على “عبده امْجِـتِـيم ” البارحة.
انشغلت الجارية مُنذ الصَّباح الباكر بتجهيز عدة العروس ففي عصر يومهم الثاني ستقوم بتنْشِيرِ ما اشتراه العريس من مصانِفَ وشِلَحٍ ومَحَارِمَ وقِطع البـَزِّ المنوعة على حبل شدَّت وثاقهُ بعودٍ قُدَّ من عرجٍ نابتٍ أسفلَ الوادي.
البيت بمن فيه في شغلٍ لا ينقطعُ والأم تَترقَّبُ خروج ابنتها العروس من مخدعها.
فالبارحة دخل بها امْجِـتِـيم ، وأشعلَ النَّبوتُ غَسَقَ يومهم الأوَّل وأقَضّ مَضَاجِع الطيور في أعشاشها.
توافدت النساءُ من كل أنحاءِ القريةِ ، وما أن تطأُ الواحدةُ منهنَّ (طُـرّاحة) أم العروس حتى ( تَـشْدخُ ) بغَـطروفٍ يخترقُ المدى .
عجَّ البيتُ بالزائرات اللاتي بدين منشغلات، فمنهُنّ من تُركِّب بالمطاحن ومنهُنَّ من تُخمِّر الحناء ومنهن من تنْقعُ الشَّبَّ وأخريات يُفَحْسنَ جَمَامِيرَ الخَميرِ ويَرْصُصْنَ الحَواسي، فيما انشغل البعض منهن بسَحْقِ الطيب ، وتوزيع رُبَطِ الخَطورِ وعُـذوق الكاذي وعروق الوَالَة.
حَرَكةٌ دائبةٌ لا تتوقف فالنساء يدْخُلنَ ويَخْرجن من وإلى بيت أم ( شُوقه ) العروس.
و( شوقه ) في خِدْرِ زوجها لم تخرج بعد .
صاحت إحدى الحاضرات بغضبٍ : ومتى يا عَـطْنَة شتِخْرُجْ امْصُبَيَّة ، قِدِينا اْصفَنَّهار !!
همست أخرى لقريبة منها وهي تضحك : يِسْتِوى ” امْجِـتِـيم ” كاتِع !! ثم انفجرت ضاحكة.
انتصف النهار و( موافِية) المنزل تلْتهبُ وقد بلغ ( مِثعِنُها) أطراف القرية الشرقية، والزائرات يتوافدن ، ففي عصر يومهم هذا سيُلْـقِّينَ نظرتهن على ما سيُنشّرُ من هدايا الزوج ، والجارية منهمكة في شد حبالها التي ستحمل تلك العطايا والهدايا .
انشغلت بعض النسوة بإعداد الوليمة بعد أن أنهى العبد (عطوان) ذبح خمسة من (الكِباشة) وسلمها للنساء لحنْذِها وتوزيعِ بعضِ لحمِها ما بين المَغَاشِّ والحَواسي .
الانتظار يدُك فؤاد أم شوقة فتأخر ابنتها حتى هذه اللحظة مُريبٌ ، وسيثيرُ تعليقاتِ النِّسوة المنتظرات حيث سيَقْدحنَ في تربيتها فعادتهن ألا ( تُطلّل ) العروس في صباح عرسها.
أنهت الجواري غَمْيَ خمسة (مَوافِية) حيث سيتوافد الرجال على بيت عيسى امْحَطِيش ( أبو شوقة ) من بعد صلاة الظهر لوليمة العرس التي دُعِيت إليها كل القرية والقرى المجاورة.
القلق يحكم قبضته على فؤاد أم شوقة حيث بدت النسوة يلحظن ذلك في حركاتها المرتبكة وشرودها وفتور غَطَارِفِها التي كانت تصم آذان السامعات صباحاً.
الرِّجالُ في الطَّرفِ الآخرِ يتساءلون عن عريسهم، و ( يَتَغَجَّرونَ ) وضحكاتهم تبلغُ (الطُّراحةَ) التي يجتمع فيها النِّسوة .
وسط هذا الهرج والمرج والصَّخبِ النِّسائي وقلقِ أم العروس وتهكُّمات الحاضرات وضحكاتهن السَّاخرة أقبلت امرأةٌ عجوز تشُقُ الحُشود ممتطيةً (حَمولَها) النَّافِر وهي تصيحُ بصوتٍ لاهثٍ : ياحَرِيم فِيانْ (ليلى أحْمِدِيَّة) ، فيان (ليلى أحْمِدِيَّة) ؟
أشَرنَ لها والدَّهْشة تعقد السنتُهن إلى أم شَوقَه التي يأكُلها القلق أمام (مُركَّبِها) الذي رصَّت عليه دلَّتينِ بجانب (كَابَة) العُشَّة الغَرْبية.
(هَدَّتْ) العجوزُ من على (حَامِلتِها) بحركةٍ تؤكدُ احترافها امتطاءً الحَميرِ ثمَّ انطلقت مُسرِعةً إلى هدفها حتى أمسكت بأمِّ شوقة وهي ( مُبَحْجِرةً ) فيها وتسألُ بقلقٍ : ( ولد امْجِـتِـيم) دخل على شوقة ؟؟!
وتهز بأكتاف الأم التي الجَمتها الدَّهشة والتي أجابتها بأنها في عُشتِها مع عريسها من ( جُهْمَة ) حتى الأن والنساءُ يتهامَسنَ ويتغامزن ..الله أبو أمها !!
احتضنت العجوزُ أم شوقة وهي تبكي وأسرت في أذنها أن شوقة أخت عبده !!
نزل الخبر كالصَّاعِقة على الأم و(بَحَّرتْ) و(انَّجلَغَ) فمُها راسماً الدَّهشةَ في أدقِّ صورها.
صاحت الأم : ( ولا غِيروا ولا غِيروا ) وأسرعت نحو عُشة العَروسين تصيح شوقة!.. شوقة! .. ولا مجيب !!.
حاولت دفع باب العُشةِ الخَشَبي غير أنه بدا مُحَكم الإغلاق من الدَّاخل ، هَرْولت نحو زوجها الذي أخذ يوزع الابتسامات الصفراء التي يَخْنقها القلقُ والخَجَلُ من تأخّر عريس ابنه حتى هذه اللحظة !!
غِير وَلاَ غِير يا عِيسى .. صاحت به الأم !
انتفض الأب من مجلسه وهرول نحو الداعية التي بادرته: شوقة أخت عبده!! شوقة أخت عبده!! غِـير ، (أدقُدِقْ) عليهم ما يفتحون .
كالمصعوق انتفض الأبُ وأسرع نحو باب العُشة الذي بادرهُ برفسةٍ كاد (حَوْكَهُ) أن يطير معها.
ليتفاجأ مع زوجتهِ بـ(عبده امْجِـتِـيم ) كاشراً مُزْرَقَّ الوجهِ (مُبَحِجرَ) العينين مكوَّراً وسط العُشة جامعاً كفّيهِ بين فخذيه والرِّيقُ يقطر من فمه الدَّالِع ، وشوقة قد انزَّوت تحت إحدى قُعُدِ العُشة مُرْتَجِفةً .
صاح الأب : شوقة مَالَ عبده غَاشِي ؟!
و ما أن رأت شوقة أمها حتى انسلَّت من تحت القَعَادةِ وارتمت في حضنها باكية وهي تقول: رَفَسْتُه يا إمَّهْ رَفَسْتُه غِيروا عليه يِمْكن عَتَرْ !!.
أسرع الأبُ وأفرغ (قَيْرْوْانةً) من الماء على ذلك المكوَّر الذي أفاق من غيبوبته وهو يلعنُ ويسبُّ عَروسَهُ وأهلها والتي أدخلته في غيبوبة منذ ليلة البارحة بعد أن تناولته بِرَفَسةٍ حَطَّت في مقتل !
انفجرت العجوز ضاحكة وهي تقول : حُرْمَة يا شوقة حُرْمَة !! ربي لك الحمد جات من السَّماء !! ترى عبده أخو شوقة يا عيسى، (عَشْتهُم) من (فِدْي) واحد شهر كامل يوم ما (نَجَّعُتُم) عندنا (ووِجْعتْ) امَّها .
أكمل عبده امْجِـتِـيم غيبوبته وانفجرَ الأبُ ضَاحِكاً وتعالت زَغَارِيدُ النسوة والتهبت السَّماء بطلقات النَّبابيت واعتلت العجوز ظهر (حَمُولِها) وعادت وهي في غاية انشراحها ، بعد أن ربطت كِيسينِ من (العُتَّامَةِ) على جانب رَحْلِ حَمُولِها الخَشَبي.
وأعلن الأبُ استكمال فرحهم بإخوة عبده امْجِـتِـيم لشوقة وأكملوا وليمتهم وغدت (رفْسَة عَبده امْجِـتِـيم ) مثلاً تسير به الرُّكبان وتتناقلها ألسنة الرُّواة والحكائين في القرية والقرى المجاورة.
ههههههههههه روعة يابو آلاء روعة
اضحك الله سنك ..
قصة رائعة وأسلوب بديع ..
أشكرك يا أبو الإبداع
نسق لنا لقاء يا رجل