ظافر الصغير نصفا ساقيه عاريين .. قدمان صغيرتان تنتعلان بحذاء والده .. والمساء في انهزام .. تعبت الأبواب من طرق أنامله .. لن يبارحَ الظلامُ الكونَ لصبح جديد إلاّ وكل شخص في القرية محاطاً بخبر الوليمة التي ستقام في بيتهم عشاء الغد بمناسبة عداد الكهرباء الذي سيلتصق صباحاً بعرض حائطهم القصير .
” غرسة ” تنمق آنيتها لمساء آت مستنير باللمبات الخمس التي وزعت ، اثنتين بالحجرتين الداخليتين ، وأخرى في مجلس الضيافة . و واحدة بالفناء تطل من كوة صغيرة بالحمام لتغذيته بالإنارة اللازمة ، أما الخامسة فقد أخذت كلفة إنارة مدخل المنزل الذي ينحشر بين أقرانه أمام الزقاق المنتهي جنوباً بالمسجد .
في أحد أركان الفناء قُيد تيس لا بأس به ، سيُشرفُ ” أبا غرمان ” كثيراً أمام أهل القرية الذين لم يتناولوا قبل ذلك لحماً كلحم هذا التيس ، هذا ما بات يحدث به نفسه وهو منتظر فجر الغد ، بعد أن ذلل كل الصعاب أمام شركة الكهرباء التي وعدته اليوم وبالأمس ، أنهم سيأتون لتركيب العدّاد وسيُمسي بيته وضاحاً بالنور .
التيس شبع مما قدمته له ” غرسة ” من علفٍ و ماء ذرّت عليه شيئاً من الطحين الناعم .. المبهوج به صدره ربت على ظهره السمين ، ثم نظر لنجمات بعيدة وابتسم لأنه سيستعيض عنها غداً بهبات العدّاد المحدد له في الجدار مكاناً واضحاً للعيان .
والغبطة تملئ المنزل .. رقد ” ظافر ” وهو واثق من أنه دعا جموع القرية ولم ينس أترابه .. تجاوره في الفراش أخته ” فاطمة ” ذات السبعة عشر ربيعاً .. سرقها النعاس من مغازلة وهن الفانوس الذي بدءوا يحسون تجاهه بالأسى وهم بنظراتهم الصامتة يتناقلون العزاء فيه .
أما ” أبو غرمان ” وزوجه فقد أرجئا شيئاً هما به إلى ليلة الغد التي سيحلو فيها كل شيء من اللمبات المتلألئة كما تصورا .
عندما أشرق اليوم التالي كان جميع من في القرية من رجال وشباب في طريقهم لسوق الثلاثاء ، ولم يتخلف عن ذلك السوق إلاّ ” أبا غرمان ” وابنه ” ظافر ” العارية اليوم قدماه ، فالحذاء الكبير في موقعهما الصحيح.
مرت ساعات الشروق القصيرة بسرعة ، وما استقويا به من ( عصيدة ) بُعيد الفجر ، قد تلاشى وهما ينتظران عُمّال شركة الكهرباء ( الخفس ) كما يسمون كل من قصر أنفسه في القرية .
تمدد التيس واستقام ومأمأ ، ثم تناول وجبة الصباح التي لم يثخن بالكثير منها لأجله الداني .
اشتد على الرجل والبقية وطأة الانتظار ، والشمس تعتلي شيئاً فشيئاً .. كان يجلس مع ابنه على عتبة الدار ، وودّ لو أن لم تلق عليه نظرة من إحدى الكوى المزروعة أمامه في الجدران .. بقيت العينان الساهمتان ترقبان الشبابيك الخشبية حتى شدّه الحياء ليترك العتبة بما فيها من شوق وانتظار لـ ” ظافر ” الذي ما فتر عزمه المصاحب بفضول طفولي .
الشارع الضيق الذي أكلت النفايات طرفيه ، لم تفصح نهايته الشمالية عن قادم غريب ، ولم تنبعث من هناك قرقرة لسيارة بيضاء وضخمة ، كما وصفها له أبوه القابع غضباً بالداخل .. الشمس بدأت تزدري المكان ، وكأنها تسخر من ذلك الجسد الصغير المحموم بوابل أشعتها ..
كل منـزل في القرية دخلته الكهربـاء ، إلاّ منزلهم .. لم يتمكنوا من دفع رسم ( دخولية الكهرب ) إلاّ بعد أن أرسل لهم – أخيراً – ” غرمان ” مالاً جمعوه مع ما ادُخِرَ من قيمة محاصيل السنوات الأخيرة ، وبعد مراجعات شاقة كان لهم ما أرادوه .. وهذا هو اليوم الموعود !
أذان الظهر يأتي من بعيد بصوت الشيبة ” فرحان ” .. و لم ينل ذلك من صبر ” ظافر ” الصغير شيئاً .. أما والده في الداخل فقد عزم على أن يواجه الأمر بطريقة تحفظ ماء الوجه ، لم تستطع زوجته أن تثنيه عن ذلك .. صوتهما المحتدم لم يثر ” فاطمة ” للاستطلاع وبقيت تنفض عن ثوبها الأصفر وعن منديلها الأخضر ما يكون محل اشمئزاز قد تبصره أي أم ستفرح بابنها قريناً لها .
والشمسُ تدنو غرباً عن الرؤوس كان الطفل يواري بوارق الأمل بصخور اليأس .. عاد لأبيه بنظرات كفته عن الحديث ، وأعفته الهيئة التي كان عليها من أي شرح .
كان التيس محتجاً على حالته المحشورة في الركن .. لم يبد له أحد ما النية تجاهه .. فظَلَّ في مأمأةٍ متواصلة عرفن النساء المترقبات في بيوتهن عودة الرجال المسوقين ، عرفن من أين يمأمأ ولماذا هو منفرد عن بقية الماشية التي لن تعود بطاناً إلاّ عند حلول أوائل الليل ؟
كل مأمأةٍ ملحة كانت تذكر أبو ” غرمان ” بما يجب فعله قبل عودة المسوقين ؟ ..وفي خفية من الأزقة الخالية إلا من أطفال يصغرونه .. عاد ظافر المرسول من دكان ” بن فطيرة ” بكرتون خشبي خالي يحمله على رأسه .. لا يرى من بعيد سوى جذعه السفلي الذي كاد أن تقهره العثرات ويسقط .. كان يتلمس الطريق بمحاذاة الجدران الحجرية حتى وصل لباب دارهم .. دخل الفناء ، وهناك بدأ والده بتنفيذ ما قرر فعله أملاً في الخروج من المأزق ، بالرغم من احتجاج الزوجة على ذلك!!
وللعصافير صلّةٌ في الأشجار وعلى عروش الأعناب عند الغروب .. كانت الأزقة تعجُّ بالمواشي الآيبة من المراعي الجبلية ، وراعيها في شغل توزيعها على الملاك منهمك .. مرتادوا سوق الثلاثاء محملين بمشترياتهم عائدين مسرين في أخرجتهم الحلوى والطيب .. القرية بسعد جميل هذه الليلة ستغرق .. معظم التنانيرلم توقد.. والنساء لم يعددن طحينهن لعشاء الرجال ، فالكل مدعو للاحتفال بالعدّاد الجديد .
قبيل الغروب استيقن التيس مصيره فخلد تحت مُدية ” أبو غرمان ” الذي لم يغب عنه أسف على التيس ، الفحل الوحيد، الذي طالما استعاره الكل لشياههم .. البسملة سبقت .. والتنور أكل جسد التيس في شبق حتى الاستواء .
لم يول أي شخص اهتماماً لمكان العدّاد .. وفي القرية المغروسة بطرف الجبل يدلهم الليل سريعاً ولا يعرف الكلب من الذئب بعد المغرب كما يقول الشيبة ” فرحان ” .. وكل مار من أمام المنزل المضياف لم يلق نظرة على الجدار ، وإن ألقى فلم يسعفه نظره بشيء في غمرة الظلام الذي يحيد بنظره عنه إلى ضوء لمبة يرتعش في مدخل دار خلفه ينتظر المنتظرون .
والليل يزداد انغماساً في الجبال المتحلقة حول القرية .. كان الضجر يزداد على وجه ” أبو غرمان ” الذي لم يُؤدِّ صلاة المغرب مع الجماعة وبقي في المنزل يُروضُ أسودَ روعه وهيجان خجله الذي لم يفارقه وهو ما بين لحظة وأختها يستقرأ من زوجته وولديه حاله غير المحسود عليها أبداً .
المنزل يشرب من الليل.. الفانوس سرحت خدمته قبل الأوان .
وفي عمق غضبه انهار كل جلد بداخله قد شُيد .. إذ رنّت من الباب الموحش طرقات ثلاث خَفَّ الصغيرُ بالإجابة بعد استطلاعه : ( إنه جارنا أبو نوره …) .
” أبو نوره ” شريكٌ في الجدار الفاصل ، لم يفتح بينهم مدرج لوحدته .. علّه يلجمُ الحديث عن وحدته بالآمال التي يسعى بها في حياته الممتدة منذ أربعين عاماً ، واستبدل الوحدة بالأمنيات وأسمى نفسه ” أبو نورة “.. القرية تعيش بأكملها على ذلك النور الذي منى به الجميع قبل نفسه .
” أبو نوره ” .. وحده استشعر بطيبته ما وقعوا فيه من حرج ، فمدَّ لهم من مكان خفي ما أنار منزلهم .. ليسرقوا بعدها من الليل فرحاً كبيراً لم يلامس حدوده إلا هذا الجار الشهم .. الذي يسأل من صميم قلبه أن يلقى ذلك استحساناً من روح ” فاطمة ” التي طالما حلم بجسدها الغضّ .. لكنه في مقام الأب .
ولدت رعونة السعادة البسيطة لتلهيهم عن الهم الذي كان يسكن الجميع .. فعدَّ الفناءُ للاستقبال ، حيث رشت الأرضية بالماء لينعش المكان ، ثم فرشوا الحصير بجوار الجدار مسند التيس النافق .. وضجت الصحون بالصوت من الداخل ، وركض الأب في سرور من أمام ابنه السعيد بجرة الماء بعد أن بلل رأسه الأشعث بقطرات منها تعبيرا عن الابتهاج الذي حل .. ثم حمل ما استكلبت به الرياح من حشائش على الباب الكبير ، ونخر ما استقر في الشقوق من أتربة ونحوها التي لا ينبغي أن تقع عليها أنظار الضيوف الذين يعرفون حتى لون فراش نوم زوجه !!
تراءت له الشمس والقمر وكل النجوم كأنّها تنبض من خلال اللمبات الخمس .. وكأن الشروق سيولد من منزله ، ألقى بهذه الفكرة ، تعبيراً عن مدخل المنزل وهو آيب من صلاة العشاء والبعض من خاصته قد سبقوه للمنزل يباركون لهم ويهنئونهم على ( فأل الخير والنور ؟! ) ـ العدّاد ـ كما أطلق عليه ” عايض المزيف * ” ، و الذي فجّر سؤاله قائلاً : ( لماذا يا أبو غرمان تغطي عدادكم بصندوق خشبي ؟ .. هل تخافون عليه من العين ؟.. ها ها ها…)
امتقع وجهه حرجاً وهرب بعينيه لجاره الذي لم يجد عزاءاً للمستجير به .. مع أن السؤال لم يثر فضول أحد الضيوف ليرغم بدوره ” أبو غرمان ” على الإجابة التي أتت ركيكة حيث رد عليه : ( هذه الليلة ستكون مطيرة وأخاف عليه أن … ) .. لم يكمل الإجابة والتي لم تكن ذات أهمية لدى الحاضرين اللاهين عنه بتبادل الأحاديث عن سوق الثلاثاء هذا اليوم ، وكيف تمت المقايضات بالمحاصيل والأعلاف على أحسن وجه .
قُدم العشاء ، و من قبله ومن بعده القهوة والشاي ، وقد تخلل ذلك حدث لم يرق لبال صاحب الدار وجاره الكريم، حيث ضعف الضوء المنبعث من لمبة الفناء وكذلك بالداخل ، ولم يعلـق أحد سوى الملقوف ” عايض المزيف ” الذي تمتم: ( الظاهر أن خوف العدّاد بدأ من الآن ، ولم تسقط قطرة مطر بعد … ) .. تبادل المحرج مع ” أبو نورة ” النظرات في صمت ولقمة أحدهما تقف في حنجرته .
مرت ساعات الوليمة بسلام .. استغرق بعدها المضيف يستلذ بأنفاس طويلة بعد غرقه الذي كاد أن يفتك بحيائه ، حيث لم يقترب أحد من جدار العدّاد .
بعد أن تلاشت الجموع فرادى خلف الجدران ، أو في فاه الأزقة المظلمة .. وتأكد الجار الشهم أن كل من في القرية غارق فيما غارق فيه داخل منزله .. أستأذن ” أبو غرمان ” للانصراف بعد أن سحب قناة عطاءه من جسد المنزل .. فعادت العتمة تصحبها روح محبطة كانت ترتع من حصاد الأسئلة المحيرة في جوف ” أبو غرمان ” .. ( ماذا سأقول للناس غداً إذا ما أتى عُمّال الشركة لتركيب العدّاد ؟ .. ماذا سيقولون الناس عن هذه الليلة ؟ .. أنا قادر على أن أولمهم ثانية لكن هل سيرحمون ؟ .. آه من الناس ) .. ولم تكن زوجته بحال تُحسد عليها .. فغداً سيطرقن النساء بيتها للمباركة .. لا محالة من أن أزواجهن سينقلون لهن ما رأوه .. حتما سيأتين !
” ظافر ” لا وطأة للإحراج عليه كـ ” فاطمة ” التي فتنها حسنها المغسول بنور اللمبة المغمضة الآن .. لم تعد ترى من جمالها شيئاً .. الفانوس عثروا عليه بعد جهد جهيد ، وكأنه يعاقب الهاجرين الذين وجدوا في بديله المؤقت خير صاحب .. عاد فاتر الإشراق .. سدت كل الكوى لكيلا تبوح خيوطه الذابلة بهذه الليلة التي لولا كرم الجار لانحشروا في عنق الزجاجة !
لم يشتهِ الأب شيئاً من بقية العشاء الذي لم ينعم بمذاقه في ظل الحفاظ على تماسكه أمام الجميع ، كما لم يأت بباله ما أجّلَهُ البارحة لهذه الليلة ، مع زوجته التي انزوت بألم يتجلى من ثوبها المحمل بروائح المطبخ والتيس الذي بات عظاماً تهرشها القطط بجوار المدخل في تلك الساعة ..
الصندوق الخشبي على الجدار يخبّئُ في بطنه العدّاد .. كما قال للناس .. وكم من عين ساهرة بإحدى النوافذ المقابلة رمقته بنظراتٍ لم تخل من تعجب سينتهي أمره صباحاً لدى السائلين : ( لماذا هذا الصندوق ؟ ).. لقد تعذر بالليل المطير .. لكنهم يتساءلون ؟؟
تعذّر بالليل المطيـر .. الليل الذي فتح للريح باباً من عرض الجبال ..
الريح باتت تعصرُ العرائش وتلوي أغصان الشجر .. تفصل بين الصاحبين في الطريق البعيدة .. تمسح من على الجدران نتوءاتها ، و سيوف السماء تغرس هزيمها بالدروب و على أسطح البيوت .. وكأن طعناتها لا تدمي إلاّ فؤاده ولا يسمع رعدها سواه .. بات كالجندي الوحيد في الثغر يحسب خطوات العدى القريبة ، ويأكلُ الرعبُ نحيبه .. يطبق بساعديه على أذنيه عسى ألاّ يتناهى لمسمعه صريرُ صندوق يُخلع من مكانه !!
أخرس السَحَرُ عويلَ القرية من سياط الريح التي عركتْ الصندوقَ الخشبي عرك إعصارٍ للوح سفينة واهنة الشراع في عرض البحار العميقة .
وأرواحهم آسنة بالحياء لم تشرق كواهم كالبقية .. وحده ” أبو نوره ” – مثلهم – لم يخرج من منزله عند الصباح .
كان كلما ارتقت الشمس درجة شرقية من سلم السماء وقف شخص من القرية أمام منزل ” أبو غرمان ” ليشهد الجدار الخالي من العدّاد بعد أن سقطت كل مسامير الصندوق ماعدا واحداً أبا إلاّ أن يبقى معززاً رابطة الجدار بالصندوق المدلى ، ومظهراً قـوة ” أبي غرمـان ” في تثبيتـه .
أهل القرية وقفوا جميعاً كمودع حاضر ، لا حيلة له ، في ساحة الإعدام شنقوا عزيزا له .. يتطلعون .. علّهم يواسون .. لكن الباب من دونهم والإغلاقُ .. والصمتُ في الخلف سباته عميق .. عميق ..
يـحـيـى سـبـعـي
صبيا – الحسيني 12/1420هـ
* إهداء للأخ العزيز عثمان بن علي العمري في قرية الحيرة – الحلباء بمحافظة النماص .